أين يذهب شبابنا إذا كانت الخلافات المذهبية والفكرية تعصف بالساحة الإسلامية فلا تدع فيها شبراً إلا ويقع فيه التدافع والتمانع؟! أين يذهب الجيل؟ وهل للخروج من هذا المعترك الضنك من سبيل؟ سؤال يجب على الكبار أن يطرحوه على أنفسهم قبل أن يطرحَهم في مهاوي النسيان تجاهلُهم وتعاميهم؛ نحن أيها العلماء الفقهاء، أيها المفكرون المنَظّرون، يا قادة الفكر والفقه والرأي، يا رؤساء الجماعات والأحزاب والمؤسسات!
نحن لم نَعُدْ نرى لهذا المصطرع المفتعل نهاية ولا غاية؛ فهل لدى أحد منكم رؤية للتعامل الواعي مع هذه الظاهرة؟ أغيثوا الشباب، وحسْبُهم ما أصابهم؛ بضياع آمالهم، ووأد أحلامهم، ودهْسِ كل ما كانوا يشيدون في ثوراتهم المظلومة المكلومة من رؤى طموحة؛ بسبب غياب دوركم!
سلامة الحقيقة من دواعي الاحتراب
لا تُحمّلوا الخطاب القرآنيّ مسؤولية ما وقعتم فيه وأغرقتم الجيل في لجّته؛ فإنّ القرآن بكل بساطة وجّهَنا إلى التعامل مع الآيات المتشابهات بردّ المتشابه إلى المحكم؛ لئلا يهيمن الزيغ المستمكن من النفوس الضعيفة على الموقف التأويليّ: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7).
وسواء قُلْنا: إنّ المحكم أقلّ من المتشابه، أو قلنا: إنّ المحكم هو معظم الكتاب؛ فإنّ مجرد كونه «أمّ الكتاب» يضمن لنا أن يكون الكتاب بمحكمه ومتشابهه بيانًا وتبياناً؛ وعليه فإنّ وِزْرَ ما يقع من تنازع وتنافر ليس مصدره الخطاب القرآني، فالقرآن كما قال عنه الرحمن: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)؛ فلنبحثْ في أنفسنا لأنّ الحقيقة سالمة بارئة.
براءة الفقه من دوافع التنازع
أمّا الفقه الإسلاميّ العظيم، فعلى الرغم من سعته وتعدُّدية الآراء في رحابه، وعلى الرغم من قيام المذاهب الفقهية على أساس هذه التعددية؛ فإنّه من المحال أن يوجد فيه مجال للتنازع والخلاف، ولطالما فرقوا بين الخلاف والاختلاف، ونبذوا الأول وحبذوا الثاني.
والتحدّي العظيم يتمثل في أنّك إن قمتَ برحلة طويلة، فأبحرْتَ في خضم الفقه بكافّة مذاهبه وجميع موارده ومشاربه، فلن تجد فيه ما يشجع على التنازع والتفرق؛ لأسباب، أولها: أنّ اختلاف الفقهاء له أسباب طبيعية واقعية تقصيه عن مكامن الهوى والشهوة، بعضها يتعلق بالمصادر وبعضها يتعلق بالطبائع، وبعضها من قبيل المقاصد العَلِيّة والغايات الرَّضِيّة، فمصادر الفقه ينشأ منها اختلاف في الرأي في فروع الشرائع لا في أصول الدين.
أمّا الطبائع، فقد قرّر القرآن حقيقة متعلقة بالخليقة: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود)؛ أي كما، قال الشاطبيّ وغيره، للاختلاف خلقهم، فإذا انحسر الاختلاف عن الأصول وانحصر في الفروع فأولئك الذين رحم الله، وأمّا المقصد والغاية فهو تحقيق شمول الشريعة وعالمية الإسلام وبقاء الدين وخلود خطابه؛ بما يحدثه الاختلاف وتعددية الآراء من السعة والمرونة، وهذا كلُّه مشروط بأن يتجانف الاختلاف عن قضايا الإيمان، ويجفل عن المحكمات والثوابت ومعاقد الإجماع ومواقع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام.
حسن إدارة الاختلاف سبيل الوحدة والائتلاف
لا ريب أنَّ إدارة الاختلاف تنبثق عندنا من بيئة ثقافية أصولها تؤسس لفقه الاختلاف وآدابه؛ فلا مبرر للاضطراب الذي ينشأ عندنا وفي واقع حياتنا المعاصرة وفي أنشطتنا العلمية والسياسية والدعوية والحركية والجهادية، ولا تفسير لهذا الاضطراب إلا بالقدح في الفهم أو التجرد؛ إذ لا يمكن أن تنتج النصوص أو الحقائق المنبثقة عنها اضطراباً أو اختلالاً.
وإذا كان الإيمان بالحقيقة التي أسلفناها هو قاعدة الانطلاق إلى إدارة رشيدة للاختلاف تحقق الحدَّ الأدنى للوحدة الإسلامية الواجبة وتنهي حالة الاحتراب بين الأصحاب والأحباب؛ فإنَّ هذا الإيمان وحده لا يفي بالغرض إلا بقدر ما تفي قواعد البنيان بأغراض الساكنين.
قواعد فنّ إدارة الاختلاف
يجب أولاً وقبل كل شيء أن نجدد إيماننا تجديداً يحيي الإخلاص والتجرد ويزيل من القلوب ما علق فيها من دخن الشهوات الخفية؛ وذلك لأنَّ مصالح العمل العام تلتبس وتشتبك بالمصالح الحزبية الضيقة، تلك التي لا تنفصل غالباً عن المصالح الشخصية التي تتَّحد مع مصالح الطائفة أو الجماعة أو الحزب؛ ومن هنا جاءت النصوص القرآنية تحوط المؤمنين بتوجيهاتها لدى الانخراط في العمل العام، ففي بداية فرض الجهاد سأل بعض الناس عن الأنفال؛ فجاء الجواب على هذا النحو الذي يمنع من استشراف المغنم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال: 1).
ويجب ثانياً أن نفرق تفريقاً حاسماً بين الثوابت والمتغيرات؛ بما يحقق الرشد والتوازن في التعاطي مع الأمور، فإنَّه من الملاحظ أنَّ كثيراً من الخلط يقع من جهة عدم التمييز بين الثوابت التي لا يُخْتَلَف عليها، والأمور الاجتهادية التي يسوغ فيها الاختلاف، وهنا يأتي دور العلماء الربانيين مع أهل الخبرة والتجربة في بَلْوَرة الثوابت وإشاعة العلم بها، مع تحريرها من كثير مما علق بها بفعل الجاهلين والمغرضين.
كما يجب أن توضع جملة من الضوابط للتعامل مع المتغيرات وموارد الاجتهاد، ضوابط علمية وضوابط أخلاقية؛ حتى تحقق الحكمة من الاختلاف بإثراء الساحة بالآراء المتنوعة التي تلبي تنوع الحاجات وتعدد الأغراض، وحتى نتلافى ما يترتب على اختلاف الآراء من ردود أفعال سلوكية.
ومثلما يجب التفريق بين الثوابت والمتغيرات يجب كذلك التفريق بين ما هو من قبيل الأحكام الشرعية وما يُعَدُّ من قبيل الآليات والأدوات والأمور الدنيوية، فأمَّا الأحكام فتعرف من مصادر الشرع، وأمَّا الأخرى فمصدرها العقل والتجربة الإنسانية؛ لذلك كان الصحابة حريصين على التفريق بينهما في مورد الشورى واتخاذ القرارات.
ويجب كذلك التفريق بين موقفنا من الرأي وموقفنا من صاحبه، فقد يكون الرأي منكراً دون أن يكون صاحبه من أهل المنكر، وقد يقتضي الرأي تفنيداً وإبطالاً دون أن يستدعي ذلك بالضرورة إفساد العلاقة مع صاحب هذا الرأي، بل إنَّه من المقطوع به أنَّ القول قد يكون كفراً ولا يلزم من ذلك بالضرورة تكفير قائله؛ هذا التفريق يسهم في منع التعدي الذي يقع بذريعة المخالفة في الرأي.
والأهم من كل ما سبق أن تكون هناك خطوط حمراء بارزة لا يصح تجاوزها مهما كانت درجة الاختلاف، فمثلاً التحالف مع أعداء الإسلام ضد المخالفين من أهل الإسلام خط أحمر، وما أكثر ما وقعت الكوارث للأمة في تاريخها كله بسبب ذلك، ولا يزال كثيرون ممن ينتسبون للعمل الإسلاميّ، بل والجهاديّ، يستحلون هذا الحرام، وحبذا لو تشكلت دوائر علمائية للبت في الوقائع.
ومن الأمور التي يجب مراعاتها بهذا الصدد أن نسعى لتعظيم المشتركات وتوسيع دائرتها وتأكيد احترامها، وقد علمنا القرآن الكريم ذلك، فبرغم الصراع الذي كان محتدماً على كافَّة الأصعدة مع أهل الكتاب رأينا القرآن الكريم يؤكد في أكثر من سورة المشتركات التي يجب الانطلاق منها بغية الوصول إلى أمر رشيد.
ويأتي دور الحوار البناء الذي ينطلق من المشتركات الواضحة، وتأتي كذلك الشورى التي تؤسس على رشد ووعي وتوضع لها الآليات التي تحقق استقامة الأداء وتضمن سلامة المنتج، ثم تأتي المؤسسية والعمل المؤسسيّ لتجعل الاختلاف في الرأي مجرد مرحلة في سلسلة الإجراءات التي تنتهي باتخاذ القرار، وتضع لكل قول ورأي مساراً لا يلتبس بغيره ولا يخرج عن فلكه.
إنَّنا أمام تحدٍّ كبير، وأمام تهديدات قد تكفي لإهلاكنا ألف مرة إذا لم ننجح في هذا الباب الكبير الخطير، وإننا لمقبلون على تحول حضاريّ كبير سيقلب الدنيا ويدير دفة الكون، فالذي يلاحظه الكافَّة ولا يختلفون فيه هو أنَّ الغلاف البشريّ للكوكب الأرضي يمور ويضطرب؛ بما ينذر ويبشر بتحولات هائلة، وفي مثل هذه الظروف يكون الأخذ بأدوات إدارة الاختلاف واجب اللحظة.