منذ فترة طويلة يتردد هذا المصطلح «الشرق الأوسط الجديد» الذي أُطلق عليه في بداية الأمر «الشرق الأوسط الكبير»، فما جذور هذا الطرح؟ وما تجلّياته وتحققاته على أرض الواقع؟ وماذا يمثل للكيان الصهيوني وداعميه؟ وما تصورهم للمنطقة في ظله؟ وما مآربهم منه؟ هذا هو موضوعنا حيث نستقي مادته الرئيسة من وسائل الإعلام «الإسرائيلية»، أي بأقلام الصهاينة وألسنتهم أنفسهم.
جذور المشروع المريب وإطاره العام
في العقد الأخير من القرن الماضي، إثر تفكك الاتحاد السوفييتي، بدأ الأمريكيون في صياغة مشروع ضخم يهدف إلى الهيمنة على العالم بأسره، أي سياسة القطب الواحد الحاكم المتحكم، وهو ما عُرف بـ«مشروع القرن الأمريكي الجديد»، وبطبيعة الحال كان لإقليم الشرق الأوسط نصيب وافر، كواحد من أهم محاور مشروع الهيمنة الأمريكية، غير أن هذا المشروع ظل مخططاً أو تصوراً نظرياً لبضع سنوات -لم يُفعّل المشروع إلا بعد هجمات سبتمبر 2001م- وكانت البداية بأفغانستان، ثم العراق.
شيئاً فشيئاً اكتمل خروج ملامح المشروع وتفاصيله إلى العلن، بعد أن أخذت طريقها إلى الأدبيات السياسية الأمريكية، من دراسات وتقارير سياسية وإسترتيجية.
كان من أهمها تقرير نشرته «مجلة القوات المسلحة» الأمريكية، كتبه رالف بيترز، وهو عسكري أمريكي سابق وصل إلى رتبة كولونيل ثم تفرّغ للكتابة في الشؤون السياسية والعسكرية والإستراتيجية، تحت عنوان «حدود الدم» الذي ركّز فيه على ضرورة تغيير التركيبة الجغرافية والسياسية التقليدية لإقليم الشرق الأوسط، التي أسسها البريطانيون والفرنسيون قبل أكثر من قرن، وحتمية إعادة ترتيب بلاده وتقسيمها، بما يتضمن إنشاء دول جديدة، واقتطاع أجزاء من بعض الدول الحالية وضمها إلى دول أخرى، مع تفتيت جميع دول الإقليم إلى دويلات قائمة على أسس إثنية، ودينية، وطائفية، زاعماً أن هذا من مقتضيات إعادة حقوق الأقليات بمختلف أشكالها، ومحاربة الإرهاب، وإحلال السلام والأمن في ربوع المنطقة!
لم يقتصر تقرير رالف هذا على الدول العربية، بل ضم إليها عدداً من البلدان الأخرى، بعضها بعيد عن عالمنا العربي كأفغانستان وأذربيجان، فضلاً عن تركيا وإيران وباكستان وغيرها، وفي هذا السياق ظهر مصطلح «الشرق الأوسط الكبير» على المسرح السياسي الأمريكي(1).
عام 1993م، أصدر شيمون بيريز، الرئيس الأسبق للكيان الصهيوني، كتاباً يحمل اسم المشروع نفسه «الشرق الأوسط الجديد»، تحدّث فيه عن إمكانية، بل ضرورة إقامة تعاون اقتصادي شامل يصل إلى درجة التكامل في مجالات الزراعة، والتجارة، والتصنيع، والسياحة، والاتصال، والنقل، بين دول الإقليم وبعضها بعضاً، بما فيها كيانه اللقيط، بدلاً من الحروب ومعاناتها وخسائرها على الجميع، وطمأن فيه أبناء كيانه المجرم، مبشّراً إياهم بأن كيانهم سيحتل الموقع الأكثر تقدماً في هذا الإطار، بحكم تقدمه التكنولوجي وتفوقه الاقتصادي، على حد قوله(2).
مآرب الكيان الصهيوني وداعميه
فضلاً عما عكسه بيريز في كتابه المشار إليه عن هذا المشروع، وبناءً على ما أسّسه من خلاله، وتفصيلاً لما أجمله في ثناياه، توالت الكتابات والتقارير «الإسرائيلية» في هذا الخصوص، عاكسة رؤية كيانهم لهذا المسار الضخم ومآربه منه، وهي الكتابات التي نشطت في السنوات الأخيرة بشكل ملموس، التي تعكس مآرب الكيان الصهيوني على النحو التالي:
1- اعتراف المحيط العربي بالكيان وتقبله له:
على سبيل المثال، كتب يعقوف كيتس مقالاً لافتاً ومعبّراً في هذا الصدد، بداية من عنوانه الذي تقول كلماته: «شرق أوسط جديد: كل ما حلُمت به إسرائيل على مر السنين»، ومن جملة ما ورد في المقال: «إن الشرق الأوسط الجديد هو ما رأيناه اليوم في اتفاقية التطبيع التاريخية التي وُقِّعت في البيت الأبيض بواشنطن، بين «إسرائيل»، ودولتي الإمارات والبحرين.. إن ما أقدم عليه هذان البلدان يساعد «الإسرائيليين» في تحقيق ما ظلوا يرنون إليه ويحلمون به على مدى سنوات عديدة، والمتمثل في أن تصبح «إسرائيل» دولة مقبولة وذات شرعية في المنطقة»(3).
في السياق ذاته، كتب يتسحاق جال، الباحث في المعهد «الإسرائيلي» للسياسة الخارجية الإقليمية، ما نصّه: «إنها فرصة ذات أهمية تاريخية بالنسبة لـ«إسرائيل».. ومن جانب آخر فسوف يؤدي هذا إلى تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية، الأمر الذي سوف يساهم بشدة في دمج «إسرائيل» في الشرق الأوسط بشكل عميق وبعيد المدى»(4).
2- التوسع الاقتصادي على حساب الدول العربية:
تعكس التقارير «الإسرائيلية» شهية الكيان الصهيوني غير المتناهية لاستغلال التقارب مع الدول العربية، في إطار الشرق الأوسط الجديد، في ابتلاع اقتصاداتها، والتوسع الاقتصادي على حسابها، ومن ذلك ما كتبه يتسحاق جال، في تقرير له حول الجوانب الاقتصادية التي ستنتج عن التعاون بين دول المنطقة، لا سيما ما يتعلق منها بالممر الاقتصادي المخطَّط له، الذي يبدأ من الهند وينتهي في أوروبا مروراً بمنطقة الشرق الأوسط.
ومما ذكره في هذا الصدد: «بالنسبة لـ«إسرائيل»، فإن ربط دول الشرق الأوسط بواسطة قطارات، يمثل فرصة لتحقيق قفزة اقتصادية وجيوسياسية، إن الممر الاقتصادي الهند – الشرق الأوسط – أوروبا، سيُحدث قفزة هائلة في المجال التجاري وعلى مستوى تطوير المشاريع على طول مساراته، ومن المتوقع أن يصبح العالم العربي ثاني أهم منطقة في العالم بالنسبة للصادرات الإسرائيلية».
ثم يضيف قائلاً: «على المستوى الاقتصادي، ثمة 3 مزايا رئيسة من المتوقع أن تساعد في تحويل الممر الاقتصادي إلى محرك جديد للنمو الاقتصادي لـ«إسرائيل»:
أ- قفزة في الصادرات «الإسرائيلية» وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد «الإسرائيلي».
ب- تطوير «تجارة الترانزيت» إقليمياً ودولياً، وهي مجال جديد وكبير للاقتصاد «الإسرائيلي»، حيث إن حجم التجارة الإقليمية والدولية التي ستمر عبر «إسرائيل» مع تفعيل الممر الاقتصادي سيكون 5 أضعاف حجم التجارة التي تمر عبر موانيها حالياً.
جـ- تدفق جديد لاستثمارات أجنبية كبيرة، من دول الخليج بصفة خاصة، في إطار توجهاتها لاستخدام الربط البري المباشر بالبحر الأبيض المتوسط، كنقطة انطلاق للنشاط التجاري والاقتصادي مع أوروبا وأسواق أخرى في الغرب(5).
_______________________________
(1) Ralph, Peters: Blood borders, Armed forces journal, 1-6-2006.
(2) – פרס, שמעון: המזרח התיכון החדש, הוצאת: סטימצקי, תל-אביב, 1993.
(3) כץ, יעקב: מזרח תיכון חדש: כל מה שישראל חלמה עליו כל השנים, מעריב, 15-9-2020.
(4) גל, יצחק: עבור ישראל, חיבור המזה”ת ברכבת הוא הזדמנות לקפיצה כלכלית וגיאופוליטית, הארץ, 21-9-2023.
(5) גל, יצחק: עבור ישראל, חיבור המזה”ת ברכבת הוא הזדמנות לקפיצה כלכלית וגיאופוליטית, הארץ, 21-9-2023.