اليهود في أدبنا الروائي الحديث:
هناك من يدعي أن إحسان عبد القدوس هو الأديب العربي الوحيد الذي أولى الشخصية اليهودية اهتماما خاصا في أعماله الأدبية، (رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية في أدب إحسان عبد القدوس، دار الهلال، القاهرة،1992، ص 7)، وهذا ليس صحيحا، فقد اهتم على أحمد با كثير وفتحي غانم ونجيب الكيلاني، ومن قبلهم إبراهيم عبد القادر المازني، أكثر من غيرهم بالكتابة عن الشخصية اليهودية على تفاوت في الرؤية والصورة.
وقد كتب إحسان رواية ” لا تتركوني هنا وحدي” وبعض القصص القصيرة: “بعيدا عن الأرض”، و”أين صديقتي اليهودية”، و”أضيئوا الأنوار حتى نخدع السمك”، و” لن أتكلم ولم أنس” و”كانت صعبة ومغرورة”، لتقدم يهوديا طبيعيا لا يعيش بمنطق عنصري، وإن كان في النهاية يبدو انتهازيا مخادعا مواليا للعصابات اليهودية في فلسطين المحتلة!
بعيدا عن السمات التقليدية
وإحسان عبد القدوس يقدم الشخصية اليهودية بعيدا عن سمات اليهودي التقليدية الشائعة في الآداب العالمية. يقدم لنا يهوديا يمثل إفرازا للواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع المصري، كما يقدم اليهودي المذل المهان ولا يقدم اليهودي الذي يخلي مكان المشاعر الإنسانية لمشاعر القسوة الإنسانية ويطالب برطل من اللحم من دائنيه مقابل الدَّيْن، على غرار شيلوك شكسبير في تاجر البندقية، بل يقدم يهوديا تحركه دوافع الرغبة في أن يستفيد من ظروف الواقع المتعيّن الذي يعيش فيه ويتكيف مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والنفسية، ويحاول الهروب أو التخفيف من مشاعر العداء التقليدية تجاه اليهود في المجتمعات الإسلامية ….. يهودي إحسان من صميم النسيج المصري العام يفضل البقاء في مصر طالما أن الظروف الخارجية لا تضغط عليه من أجل الانسلاخ عن هذا النسيج…؟ (رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية في أدب إحسان عبد القدوس، دار الهلال، القاهرة،1992، ص 8 وما بعدها).
ويبدو أن إحسان بحكم عمله في روز اليوسف تأثر بنظرة الشيوعيين المصريين إلى اليهود الغزاة الذين اغتصبوا فلسطين، فقد وقف الشيوعيون المصريون الذين كان يرأسهم اليهودي “هنري كورييل” مؤسس الأحزاب الشيوعية في مصر والعالم العربي إلى جانب اليهود في اغتصاب فلسطين، وأصدروا بيانات تندد بدخول العرب حرب1948 دفاعا عن الفلسطينيين، وكان ولاؤهم أولا وأخيرا لعرّاب الشيوعية اليهودي في البلاد العربية.
التأثير الشيوعي
لا أدين إحسان عبد القدوس في موقفه بقدر ما أعزوه إلى تأثره بزملائه في العمل، ثم إنه لم يكن فيما يبدو ملمّا بتاريخهم وواقعهم بما فيه الكفاية، مع أنه زار فلسطين قبل اغتصابها، واهتم بأحداثها في مجلة روز اليوسف وغيرها. ويكفي أن اليهود في مصر قبل إنشاء كيانهم الغاصب استغلوا تسامح المسلمين المصريين من أجل بناء كيانهم الغاصب في فلسطين الذي فرّوا إليه جميعا بطريق مباشر أو غير مباشر.، فأنشأوا صحفا وجمعوا أموالا، وبنوا كتائب عسكرية استعرضوها في الإسكندرية، ودفعوها لتحارب مع العصابات اليهودية ضد الفلسطينيين.
وللأسف؛ فإن بعض الشيوعيين المصريين مازالوا حتى اليوم يدافعون عن اليهود المصريين الذين خانوا وطنهم وهربوا إلى فلسطين المحتلة تحت دعوى التمييز بين الصهيونية واليهودية في السياسة، وزعموا أن اليساريين اليهود في مصر يرفضون الصهيونية ويعدّونها طريقا لزرع العداوة بين اليهود والعرب! بيد أن هؤلاء كانوا قلة أو استثناء يثبت القاعدة، وكان موقفهم نوعا من توزيع الأدوار الذي يتقنه اليهود الغزاة في كل العصور حتى يومنا هذا.
هروب إلى الكيان
وفي حقيقة الأمر، فإن مئات الآلاف من اليهود المصريين لم يتبق منهم الآن في مصر إلا نحو خمسين شخصا، أغلبهم من الطاعنين في السن. وقد تناول الموضوع بالوثائق عدد لا بأس به من الباحثين من بينهم عواطف عبد الرحمن (يسارية) في كتابها: «اليهود المصريون والحركة الصهيونية»، (دار الهلال، سلسلة كتاب الهلال، القاهرة، 2017). ويمكن مراجعة كتب سهام نصار: اليهود المصريون صحفهم ومجلاتهم- الصحافة الإسرائيلية والدعاية الصهيونية في مصر- اليهود المصريون بين المصريّة والصهيونية- موقف الصحافة المصرية من الصهيونية 1897-1917. وحسين كفافي ” هنري كورييل: الأسطورة والوجه الآخر، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة تاريخ المصريين رقم 240، القاهرة 2003م، لنرى خرافة التفرقة بين اليهودي المصري والصهيونية!
الأعماق الشريرة
أما باكثير وفتحي غانم ونجيب الكيلاني، فقد اهتموا بتقديم الشخصية اليهودية ووصلوا إلى أعماقها الشريرة، من خلال إنتاج روائي وقصصي غزير. في الوقت الذي صمت فيه نجيب محفوظ تماما عن الإشارة إليها باستثناء ما تناوله بصورة هامشية في الثلاثية حول شخصية فتاة يهودية يقع في حبها واحد من شخصيات الرواية (كمال)، مع فشل هذا الحب. وفي رواية “زقاق المدق”، حيث يشير على لسان حميدة إلى أن حياة اليهوديات هي الحياة الحقة، وأن اليهوديات العاملات كلهن يرفلن في الثياب الجميلة، وأن اليهود متحررون من الأعراف والتقاليد.
وللأسف فإن بعض من تناول الشخصية اليهودية في مصر من الجيل الحالي يتقرب إلى اليهود- كما سبقت الإشارة- ويسعى إلى غسيل سمعة الشخصية اليهودية من الكذب والحقد والكراهية والعنصرية والعدوانية والشراهة للمال والربا، فهناك مثلا روايات: «أيام الشتات» لكمال رحيم و«سانتا تريزا» لبهاء عبد المجيد، و” النبطي” ليوسف زيدان، و«آخر يهود الإسكندرية» لمعتز فتيحة، و «حد الغواية» لعمرو عافية.
وتدور حول التعايش وقبول الآخر(؟) والإيمان بالتعددية الدينية التي كانت قائمة(؟) بين المسلمين والمسيحيين واليهود، والحب بين يهودية ومسلم أو العكس، والتعاطف مع الشخصية اليهودية الطبيعية المسالمة التي تعيش مثل بقية الناس.
المناخ الأدبي
هناك رواية وحيدة لمصطفى نصر، اسمها «يهود الإسكندرية» حاولت أن تقدم على استحياء الصورة اليهودية الحقيقية المعجونة بالخبث والجشع والطمع والاستحلال، ولكن المناخ الأدبي المصري الموجّه يروج لمقولات كاذبة عن يهود ما قبل الكيان الصهيوني الغاصب من أنهم كانوا جزءا من النسيج الاجتماعي المصري، وهو كلام سخيف لا أساس له من الصحة. لأنهم في أغلبهم عاشوا مفتوحي الشهية على الربا والرهونات والاستغلال، والمؤامرات والتجسس لصالح المحتلين الغزاة، وكان هنري كورييل، عرّاب الشيوعية في مصر والبلاد العربية- باعترافه- جاسوسا للإنجليز حين فتح مكتبة في وسط البلد (القاهرة) ليرسل من خلالها تقارير للقيادة البريطانية. (يمكن مراجعة ما كتبه جيل جيرو، ورفعت السعيد، وحسين كفافي على سبيل المثال)
***
الجذور الخبيثة
يقول نجيب الكيلاني:
” إن الخطر اليهودي يضرب بجذوره الخبيثة في أعماق التاريخ ويتسلل حتى عصرنا هذا، والغريب أن أخطر المواقف التي تعرض لها الإسلام في بدايته كانت على أيدي اليهود أمثال كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وعمر بن الجحاش، وكعب بن أسد وغيرهم. فهم الذين حركوا قريشا في غزوة أحد وهم الذين ساقوا العرب بدهائهم وأموالهم ومؤامراتهم في المعركة الخطرة غزوة الأحزاب، وهم الذين حاولوا اغتيال الرسول– صلى الله عليه وسلم– وغدروا بالعهود والمواثيق في أحلك الظروف..” (نجيب الكيلاني، نور الله- ج1، ص9).
ولهذا تبدو الشخصيات اليهودية في روايات الواقعية التاريخية لدى نجيب الكيلاني، ذات وجود مهيمن، بل تبدو فنيّا أكثر حيوية وحركية من الشخصيات الإسلامية بسبب انحرافها ومكرها وسوء طويتها، وتعبيرها عن الشخصية الفنية المعقدة شديدة التركيب، المتباينة المتنوعة.. التي تتعدد بتعدد الأهواء والمذاهب والأيديولوجيات والثقافات والحضارات والهواجس والطبائع البشرية.. (عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص 83).
وشخصية المرأة اليهودية في روايات الواقعية التاريخية لدى نجيب الكيلاني، تبدو أكثر هيمنة وحضورا من شخصية الرجل، مع أن الرجل هو الذي يتصدر الواجهة، ويتخذ القرار، ويقوم بالتنفيذ والقتال، في حين أن المرأة- نظريا- لدى اليهود لا تعدو أن تكون سيدة بيت وأما للأطفال، وتنفذ ما يطلبه سيد البيت وهو الزوج!
ومن أهم الشخصيات النسائية اليهودية التي عالجتها رواية الواقعية التاريخية عند الكيلاني:
صفية بنت حيي بن أخطب
تعد من أشهر نساء اليهود على الإطلاق فأبوها حيي بن أخطب رجل مرموق المكانة، نابه الشأن، صاحب رأي وكلمة مطاعة بين بني قومه من اليهود، وعلى صلات وثيقة مع رجالات القبائل العربية في طول الجزيرة العربية وعرضها. ويقال إنها من سلالة النبي هارون شقيق رسول الله موسى عليهما السلام، وزوجها كنانة بن الربيع سيد قومه، كثير المال، قوي الجانب، تحميه السيوف والدنانير والتجارة الواسعة، والديانة العتيقة، وصفية في الوقت نفسه على جانب كبير من الجمال والفطنة والأريحية؛ فهي تبش عند اللقاء، وتجود للفقراء، وتواسي المحزونين، بل إنها تحظى أكثر من زوجها بحب شعب اليهود بنسائه ورجاله، ولم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن كبريات الأمور التي تجري، سواء في مجال السياسة أو الدين أو الحرب أو المال.
الفضول الزائد
وامرأة هذا شأنها لم تغلق فكرها، أو تغمض عينيها عما يجري بشأن النبي العربي الجديد. كانت تتقصى أنباءه، وتلح في طلبها، وتتلقى ما يصل إليها من آيات القرآن تلقي الشغوف ذات الفضول الزائد. وترمق بعين يقظة صدى الدعوة الإسلامية في مجتمعات اليهود الصاخبة، وتابعت تطورات الموقف لحظة بلحظة ومرحلة مرحلة.
فقد كان اليهود يتمنون أن ينحاز إليهم النبي الجديد الذي بشرت به كتبهم. وقد ناقشت صفية مع زوجها كنانة بن الربيع أمر هذا النبي الذي يؤمن بموسى وعيسى والأنبياء من قبله، وقد آمن به الحبر الأكبر اليهودي ابن سلام الذي كان مخلصا للدعوة اليهودية. بيد أن زوج صفية يخبرها أن اليهود لا يؤمنون بغير أنبياء بني إسرائيل وكتبهم، ويكشف عن نية اليهود في معاداة النبي العربي لأنه يتهم كتبهم بالتزييف والتحريف والتغيير، ويرى كنانة أن “لا إله إلا الله محمد رسول الله” شعار خطر لأنه سيسوي بين زعماء اليهود وأتباع محمد من العبيد.
الاستعلاء والغطرسة
لا تستريح صفيه لأفكار زوجها، وتنحاز بقلبها وعقلها إلى ما يدعو إليه محمد من إخاء ومساواة وقيم وفضائل يقبلها العقل والضمير الحي، وتهتز لما تسمعه من آيات القرآن الكريم، ولكن زوجها لا يعبأ بصوت العقل والضمير، ولا يهتم بما تقوله صفية فهو يراها مجرد امرأة لا يجوز أن تناقش أمور الدين؛ فالنساء للفراش وقدور الطعام ونظافة المنازل!
وهي تكره من زوجها الاستعلاء والغطرسة وازدرائه لها ولأفكارها مع أنه يعترف بمنطقها الخلاب وحوارها المذهل. لكنه يعاملها كما يعامل الجارية. ويرى أن النساء لا يعرفن كيف يفكرن أو لا يستطعن أن يفعلن صوابا.
في داخل صفية ينبت تمرد على منطق الزوج المتغطرس، وتنطوي على نفسها تكظم أساها وهي لا تريد أن تسيء لزوجها أو أبيها فهي زوجة ملك وابنة ملك.
رؤيا القمر المنير
وسط هذا الصراع النفسي والروحي ترى صفية رؤيا غريبة، وهي أن قمرا منيرا سطع في الظلام الكثيف يأتي من يثرب يعبر السماء يقترب منها ثم يدخل في حجرها. ولكن هذا الحلم يزعج زوجها الذي تتغير سحنته فيهوي بقبضته على وجهها ويقول في غيظ: كأنك تحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة؟!!
إن كنانة يرى زوجه متمردة ويطلب منها ألا تسمعه مثل هذه الأحلام أو السخافات. وفي لقاء لها مع أبيها حيي بن أخطب بعد أن علمت بخطط اليهود وتآمرهم على الدعوة الإسلامية، تقول له: “لم لا تدعون محمدا وشأنه، وتنصرفون إلى النافع من الأمور؟ فيرد عليها: وهل هناك أهم من الدين حتى نشغل أنفسنا به؟”. (نور الله ج1، ص 42-48).
ولا يختلف والد صفية حيي بن أخطب عن زوجها في حقده على الإسلام ومشاركته مع زعماء خيبر وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع في تدبير الخطط والمؤامرات ضد الإسلام والمسلمين، ويعلل ذلك لابنته التي لم تر اليهود يوما يهتمون بالدين مثلما يهتمون به الآن، بأن محمدا يعري سوءاتهم ويسفه أحلامهم ويتهم كتبهم وأحبارهم ويدعوهم إلى دينه.. (انظر: على أبواب خيبر، ص 11)
أين أنت يا ابنتي
قُتل أبوها الرجل المرموق وصاحب الكلمة المطاعة في قومه بعد هزيمة يهود بني قريظة، وعاشت تندبه وتبكيه. وكانت علاقتها بزوجها كنانة بن الربيع متوترة وليست على ما يرام، وتبدي كثيرا من الرفض لتصرفاته وأفكاره.
وحين يؤخذ حيي بن أخطب ليقتل جزاء غدره وتآمره وخيانته، يتذكر صفية ” أين أنت يا ابنتي يا صفية؟؟ لا شك أنك ستولولين وتملأين الربوع دموعا وصياحا.. وستأتي إليك نسوة خيبر ويقدمن لك التعازي.. كان أبوك يا صفية رجلا عظيما.. وكنت أنت يا صفية تعترضين دائما على مخططاتي.. وكنت تفضلين مصالحة محمد، والعيش في جواره، والوفاء بعهوده.. هل كنت يا صفية أبعد نظرا منّي أن قلبك كان يحدثك بهذا الموقف الرهيب الذي يقفه أبوك؟؟ …” (نور الله ج1، ص276)
المكافأة الإلهية
وشخصية صفية من الشخصيات اليهودية التي تستجيب للفطرة الإنسانية في صفائها ونقائها، وصورها الكاتب من داخلها، وخارجها، فقدمها لنا وهي تتمنى الخير لقومها، من خلال اتباعهم للنبي الجديد، وتفكيرها لا يقف عند الحدود الهامشية للدعوة الجديدة بل يتأمل ويتدبر ويتساءل ويجيب، ويستقر على تخوم الإيمان بهذه الدعوة ونبيها، ورفض السلوك اليهودي الشاذ الذي يأبى إلا أن يكون معارضا للدعوة والداعية، ولا يكتفي بالمعارضة بل يدبر ويخطط للقضاء على الدين الجديد وأتباعه جميعا. ثم هي شخصية خيرة محبوبة يحبها اليهود أكثر من زوجها ويحترمونها ويقدرون لها تعاطفهم معها.
وقد كافأ الله صفية بزواج سيد الخلق– صلى الله عليه وسلم– وحمل لقب أم المؤمنين.