إن التاريخ يحتاج دومًا إلى رجال يقومون على حفظه وتدوينه؛ لتبقى ذاكرة التاريخ حية لمن أراد مطالعتها والرجوع إليها، وأخذ العِبَر منها، والإفادة من تجاربها.
ويُظلم التاريخ ولا يؤدى على وجهه الصحيح إذا تناوله رجال لم يتحروا الإنصاف، ولم يتجردوا من الأهواء، وأخلوا بالأمانة، ولم يقيموا الشهادة.
والوقائع التاريخية قد يكون لها أكثر من رؤية وقراءة، لذلك قد تختلف الأحكام عليها من شخص لآخر حسب رؤيته وقراءته لها، لكن مهما تعددت زوايا النظر فإنه لا يمكن تبرير الظلم والعسف، ومن يبرر الظلم فكأنه قد شارك الظالم في ظلمه.
والظلمة دائمًا ما يضيقون ذرعًا بالناصحين ومنابرهم، ويسعون بكل السبل لإسكات تلك الأصوات، وغلق منابرها، وقصف أقلامها، وحرق كتاباتها، ويبحثون عمن يمجِّد فيهم، ويغض الطرف عن مساوئهم، وفي مقابل ذلك يغدقون عليه من خزائنهم.
ومن آخر المؤرخين العظام الذين ساروا سيرة المتقدمين أمثال المقريزي، وعبدالرحمن الجبرتي صاحب كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، الذي عُني بالحوادث من عام 1100 إلى عام 1236هـ.
والجبرتي عاش ما بين 1167 – 1237هـ/ 1754 – 1822م، وهو عبدالرحمن بن حسن الجبرتي الحنفي الأزهري القاهري، مؤرخ مصر، ومدون وقائعها وسير رجالها، في عصره(1)، ونسبة الجبرتي إلى جبرت من بلاد الزيلع فيما يسمى الآن بالقرن الأفريقي.
والجبرتي شاهد على أحداث عظمى؛ فقد شهد الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر (1798 – 1801م)، وقيام دولة محمد علي باشا بمصر، وانتهاء عصر المماليك والقضاء عليهم.
وكانت قيمة العدل مسيطرة على عقله وجنانه، وكانت بوصلته أثناء التأريخ وسرد الأحداث وتقييمها والحكم عليها، وهو يكره الظلم والجور وتأباهما نفسه، ولا يرضاهما لما لهما من الآثار المدمرة على الدول والشعوب والمجتمعات.
وهذه القيم لا نحتاج أن نفتش عنها بين ثنايا كلامه وتأريخه، أو محاولة استنباطها أثناء سرده، بل نص عليها في مقدمته لكتابه «عجائب الآثار»، فقال: «بالعدل ثبات الأشياء ودوامها، وبالجور والظلم خرابها وزوالها؛ فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم، وعدم الإنصاف لهم والظلم، والجور كامن في النفوس، لا يظهر إلا بالقدرة»(2).
وطلب العدل من أي إنسان واجب، لكن طلبه من أهل الملك والسلطان آكد وأوجب، ووقوع الظلم من أي إنسان شنيع، لكن وقوعه من أهل الملك أشنع.
لذا كانت هذه النصيحة من الجبرتي وهذا التخويف، فقال: «الواجب على الملك وعلى ولاة الأمور ألا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسُّنة؛ لأنه يتصرف في ملك الله وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله نيابة عن تلك الحضرة، ومستخلفًا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره، فينبغي أن يحترز عن الجور والمخالفة والظلم والجهل؛ فإنه أحوج الناس إلى معرفة العلم واتباع الكتاب والسُّنة، وحفظ قانون الشرع والعدالة؛ فإنه منتصب لمصالح العباد وإصلاح البلاد، وملتزم بفصل خصوماتهم وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام، فلا بد من معرفة أحكامها، والعلم بحلالها وحرامها؛ ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته وضبط مملكته وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه، وتمتلئ القلوب بمحبته والدعاء له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه، وأدوم لبقائه، وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل، والإنصاف على الرعية»(3).
ولم يخالف منهجه هذا عند التأريخ، وقد رصد كثرة المصائب على أهل مصر من الخارج والداخل.
أولاً: الظلم الواقع على المصريين من المماليك:
لقد عاث المماليك في البلاد وأكثروا فيها الفساد، راعوا مصالحهم على حساب الرعية، وكانوا فيما بينهم مختلفين متقاتلين، والشعب هو الضحية، فإذا أراد أحد الأمراء محاربة خصم له مال على الناس فأخذ مالهم، وفي أمثال ذلك يقول: «تسحَّب -أيضًا- جماعة من الكشاف والمماليك وذهبوا إلى قبلي فشرعوا في تجهيز تجريدة، وعزم مراد بيك على السفر وأخذ في تجهيز اللوازم، فطلب الأموال، فقبضوا على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين وحبسوهم وصادروهم في أموالهم وسلبوا ما بأيديهم، فجمعوا من المال ما جاوز الحد ولا يدخل تحت العد»(4).
وكلما وقع التقاتل بين كبار الأمراء كثر الفساد بين الناس، ويصف تلك الحال فقال: «اشتد الكرب والضنك على الناس وأهل البلاد، وانقطعت الطرق القبلية والبحرية برًّا وبحرًا، وكثر تعدي المفسدين، وغلت الأسعار، وشح وجود الغلال وزادت أسعارها، وفي تلك المدة كثر عبث المفسدين، وأفحش جماعة مراد بك في النهب والسلب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات، ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر»(5).
ثانيًا: الظلم الواقع على المصريين من الفرنسيين:
كانت الحملة الفرنسية على مصر صدمة زلزلت أركانها، وكانت آثارها السياسية والعلمية والثقافية عميقة؛ فقد انجلت الحملات الصليبية عن مصر من مئات السنين، لكنها عادت من جديد تحت قيادة نابليون الآتي من الغرب البعيد.
وعند تأريخه لسنة 1213هـ قال: «وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون»(6).
ثالثًا: الظلم الواقع على المصريين من دولة محمد علي:
جاءت دولة محمد علي باشا فتخلصت من المماليك والسادة الذين أجلسوا محمد عليّ على كرسي مصر، ونظر للشعب نظرة السيد لعبده، فسامهم سوء العذاب، وقد ذكر بعض ذلك الجبرتي بقوله: «لما حضر إبراهيم باشا إلى مصر وكان أبوه على أهبة السفر إلى الحجاز حضر الكثير من أهالي الصعيد يشكون ما نزل بهم ويستغيثون ويتشفعون بوجهاء المشايخ وغيرهم، فإذا خوطب الباشا في شيء من ذلك يعتذر بأنه مشغول البال، واهتمامه بالسفر، وأنه أناط أمر الجهة القبلية وأحكامها وتعلقاتها لابنه إبراهيم باشا، وأن الدولة قلدته ولاية الصعيد فأنا لا علاقة لي بذلك.
ثم سافر راجعًا إلى الصعيد يتمم ما بقي عليه لأهله من العذاب الشديد؛ فإنه فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار، وأذل أعزة أهله، وأساء أسوأ السوء معهم في فعله، فيسلب نعمهم وأموالهم، ويأخذ أبقارهم وأغنامهم، ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه، أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه، ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة، والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة، ويلزمهم بتحصيلها وغلاقها وتعجيلها، فتعجز أيديهم عن الإتمام، فعند ذلك يجري عليهم أنواع الآلام من الضرب والتعليق والكي بالنار والتحريق»(7).
وقد وصف إبراهيم باشا بقوله: «شاب جاهل، سنه دون العشرين عامًا، وحضر من بلده ولم ير غير ما هو فيه، لم يؤدبه مؤدب، ولا يعرف شريعة، ولا مأمورات ولا منهيات»(8).
هذه التعرية لأهلم الظلم وعدم المداهنة والمجاملة لم تعجب الدولة، لذا يميل د. محمد رجب البيومي إلى أن محمد علي باشا تخلص منه عن طريق الاغتيال الذي نفذه سليمان أغا السلحدار(9).
______________________
(1) الأعلام للزركلي (3/ 304).
(2) عجائب الآثار (1/ 15).
(3) المرجع السابق (1/ 16).
(4) المرجع السابق (2/ 104).
(5) المرجع السابق (2/ 114).
(6) المرجع السابق (3/ 1).
(7) المرجع السابق (4/ 292) باختصار.
(8) المرجع السابق (4/ 292-293).
(9) انظر: علماء في وجه الطغيان، ص 97-98.