جبل الإنسان على البحث عن الغاية، والرغبة في إضفاء قيمة في كل ما يفعله، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على علو الهمة وفعل معالي الأمور، فعن الحسين بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها»(1).
وفي زماننا هذا الذي انتشرت فيه سفاسف الأمور وغابت قيمة الأفعال قد ضعفت فيه الهمم وندر أصحاب العزائم، فلا بد من إعادة إحياء قيمة علو الهمة، وطرق تحفيزها ووسائل إنمائها، ومعرفة التحديات التي تواجهها والتغلب عليها.
أولاً: أهمية علو الهمة ووسائل غرسها:
رغب الإسلام في قيمة الهم بحسن الأفعال، فجعل همة العبد أبلغ من عمله، فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من طَلَبَ الشَّهادَةَ صادِقًا، أُعْطِيَها، ولو لَمْ تُصِبْهُ»(2).
فكلما قوي القلب وتزكت النفس نال العبد من الحياة الطيبة وأجرها، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
وقد وجهت الشريعة لأهم سبل غرس علو الهمة في النفوس، ومنها:
1- التزام الأمر المباشر بعلو الهمة: فأمر الله عباده بالتسابق في الخير لتحصيل المغفرة والجنة، والبذل في سبيلها، والتنافس عليها، قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133).
2- تدبر القصص القرآني: يمتلئ القصص القرآني بالنماذج التي تبين حال أصحاب الهمم العالية وما نالوا من نعيم الجنة، ورغب في الاقتداء بهم، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35).
3- العيش لأجل هدف سامٍ: فمن أهم أسباب علو الهمة أن ترتبط حياة الفرد بهدف سامٍ وهو الهم بالآخرة لا الدنيا، روى زيد بن ثابت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ»(3).
4- تزكية النفس: فوجه الله تعالى عباده لفضل تزكية النفس ومجاهداتها في نيل هدايته عز وجل فقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، فمجاهدة النفس هي ما تبعث إلى اليقظة وعدم تمكن الآفات منها كالكسل والتسويف وغيرها.
5- الصحبة الصالحة: من أهم ما يُعين العبد على علو الهمة صحبة أصحاب الهمم العالية، فأحدهم يذكر صاحبه إذا نسي، ويحث همته إذا فترت، ويصبره على الخيرات، حتى إن نبي الله موسى عليه السلام طلب من ربه الشركة في النبوة، فقال كما قال ربنا عز وجل: (وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي {29} هَارُونَ أَخِي {30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي {31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي {32} كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً {33} وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً {34} إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً) (طه).
6- قراءة سير أهل الهمم العالية: وأعظمهم السلف الصالح رضي الله عنهم، فمن عرف علو همتهم فقد حصل له بذلك عظيم الفائدة، يقول ابن القيم عن أثر اطلاعه على سيرهم: «واستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد»(4).
ثانياً: تحديات أمام علو الهمة:
وهي كثيرة بكثر ما يعتري النفس ويَجِدّ في الواقع، ومن أهمها:
1- الركون إلى الدنيا: من أشد الآفات على قلب العبد هو تمكن الدنيا منه، والتنافس عليها، قال الله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف).
2- أمراض النفس: وهي كثيرة لا تحصى، منها التسويف، والتمني، والعجز والكسل، والغفلة، والغرور، وغيرها من الأمراض، وقد حث الله عز وجل عباده على التزكية المستمرة للنفس في قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس).
3- التوجيه المثبط للهمم: كالمناهج التربوية والتعليمية العقيمة التي تضعف القوى الفكرية، وتجعل غاية الطلاب تحصيل الدرجات فحسب، ومثلها الأساليب التربوية من الآباء والمربين التي تحقر من قدرات الطفل ومحاولاته الاستكشافية، وتركز على أخطائه فقط؛ فيركن إلى التقليد لما هو رائج، فتضعف بذلك همته.
4- البلايا والفتن: فقد يبدأ العبد سيره بهمة عالية ولكن مع الابتلاءات والفتن تضعف همته، ولربما ترك الطريق جملةً، وذلك مما يحتاج لمزيد فقه بسنن الله تعالى الكونية وحكمته وراء الأمور، قال عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، فإن الابتلاء واقع لا محالة، صبر العبد عليه أو جزع.
________________________
(1) صححه الألباني في صحيح الجامع (1890).
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني.
(4) قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبدالفتاح أبو غدة، ص 31.