أورد ابن غنام المقدسي عن ابن سيرين أن أحد الخلفاء رأى في منامه أن أسنانه سقطت جميعها، فقصّ رؤياه على معبر، فقال المعبر: يموت أهلك كلهم جميعاً ويتركونك وحدك.
فغضب الخليفة لذلك غضباً شديداً، ثم أرسل إلى معبر آخر، فجاء إليه وقص عليه رؤياه، فأجاب المعبر بقوله: أنت أطول أهلك عمراً؛ فسُرّ الخليفة بذلك، لأنه أحسن العبارة، وذكر الحياة ولم يذكر الموت، والمعنى واحد(1).
جميل أن يسكت الإنسان عن سوء القول، وأجمل منه أن ينطق بالخير، وأجمل منهما أن يتلطف في القول، فيحول النصيحة المُرّة إلى كلمة يتمنى أن يسمعها غيره ألف مَرّة.
إن الله تعالى إذا أحب عبداً هداه إلى الطيب من القول، حيث وصف تعالى المؤمنين الفائزين بقوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج: 24).
فالكلمة الطيبة هداية من الله للمؤمنين، وهدية إلى الناس أجمعين، بها يقوى الضعيف، وينجبر الكسير، ويتشجع الصغير، ويفرح الكبير، وفيما يأتي بيان بعض المزايا الاجتماعية للكلمة الطيبة.
أولاً: دليل على طيب أصل قائلها:
يقول تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور: 26)، يرى بعض الناس: إن هذه الآية تدل على زواج الخبيثات من الخبيثين، والطيبات من الطيبين، لكن الآية –وإن كان عموم لفظها لا يمنع من ذلك- لها سبب نزول، حيث نزلت في الذين قالوا في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قالوا من البهتان أعقاب الحديث عن حادثة الإفك، لتدل الآية على أن الخبيثات من الكلمات للخبيثين من الناس، أما الطيبون من الناس فإنهم ينتقون أطيب الكلمات، لأنهم أحق بها وأهلها(2)، وفي هذا دليل على أن الكلمة الطيبة تدل على طيب معدن قائلها وأصالته.
ثانياً: ثمرتها طيبة:
لقد ضرب الله تعالى في القرآن الكريم مثالاً رائعاً في الفرق بين الكلمة الطيبة والخبيثة، حيث أكد أن الكلمة الطيبة ثمرتها طيبة، فقال عز وجل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم).
ثالثاً: مجلسها طيب:
ليس أصل قائل الكلمة الطيبة وثمرته الطيبين فقط؛ بل إن المجلس الذي تسوده الكلمة الطيبة مجلس طيب، ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ».
رابعاً: من البر:
أخرج البيهقي، وابن أبي الدنيا، عن ابن عمر قال: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».
خامساً: تجلب المحبة:
في الترغيب والترهيب عن سيدنا عليّ رضي الله عنه قال: «من لانت كلمته، وجبت محبته».
سادساً: دليل على الذوق الرفيع:
إن الناظر في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة وسير الصالحين يجد أن أمثلة متعددة تؤكد أن الذوق الرفيع الذي يتحلى به أهل الفضل من الناس يحملهم على انتقاء أطيب الكلمات وأرقاها، حتى يحفظوا أنفسهم من سوء القول، كما يحفظوا غيرهم من جرح المشاعر والأحاسيس.
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما جاء في قصة دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه في سورة «مريم»، حيث خاطبه مراراً بقوله: يا أبت.. وهو تعبير يدل على اللطف واللين في الكلام، ومع هذا يأتيه الرد الخشن والقول السيئ، حيث كانت الإجابة كما قص القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم: 46)، فما كان من سيدنا إبراهيم عليه السلام إلا أن تمسك بالكلمة الطيبة والسلوك الطيب، حيث: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 47).
وهذا يوسف عليه السلام، بعد أن امتدت إليه يد إخوته بالأذى؛ فتح الله له أبواب الخير والمُلك، فأصبح عزيز مصر، وجاءه إخوته في حالة من المذلة والصغار، فتحدث النبي الكريم إلى أبيه في حضور إخوته ليقول: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) (يوسف: 100)، فكان عظيماً في كلامه حيث تخير أطيب الكلام، حين قال: إذ أخرجني من السجن، ولم يقل: أخرجني من البئر، حتى لا يجرح إخوته بالكلام، بل إنه لم ينسب إليهم التدبير والكيد، بل نسبه إلى الشيطان الرجيم.
وهذا سيدنا عيسى عليه السلام يمر مع بعض أصحابه على أناس جالسين، فقالوا له شراً، فقال لهم خيراً، ثم قالوا له شراً، فقال خيراً، وفي الثالثة سأله أصحابه في ذلك، فقال: «كل ينفق مما عنده»، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أن مرّ بكلب، فقال له: «مرّ بسلام»، فسأله أصحابه: لماذا لا تشتمه كعامة الناس؟ فقال: «حتى لا أعود لساني منطق السوء».
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عنه الناس أنه كان طيب القول، ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبابا، وَلَا فَحَّاشًا، وَلَا لَعَّانًا».
وهذا سيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في الذوق الرفيع وحسن اختيار الكلمات، حين سئل: أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله أكبر مني، لكني ولدت قبله.
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب يتفقد أحوال رعيته يوماً، فوجد أناساً قد أشعلوا النار، فذهب إليهم، وأراد أن يناديهم، فلم يقل: يا أهل النار، خشية أن يظنوا أنه يدعو عليهم بأن يكونوا من أهل النار، وإنما تخير كلمة رائعة، حيث ناداهم بقوله: يا أهل الضوء.
وَكَانَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ جَلِيسٌ أَعْمَى، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ، اذْهَبْ مَعَ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَا يَقُولُ: خُذْ بِيَدِهِ، قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَخَلَّ بِهَا مَرَّةً(3).
_____________________
(1) نزهة الأنام في تعبير الأحلام: ابن غنام المقدسي، ص 161.
(2) تفسير الطبري (19/ 142).
(3) الطرق الحكمية: ابن قيم الجوزية، ص 41.