في ساحة القتال، بينما المسلمون صامدون ثابتون مجتهدون في صد العدوان وهداية الإنسان، والكافرون يقاتلون بكل قوة، يقصدون الفتك بالمسلمين والقضاء عليهم، إذ انفلت من بين الكافرين رجل كان يستأسد على المسلمين ويُعْمِل السيف فيهم قتلاً، فانطلق الصحابي الجليل أسامة بن زيد وراءه، ورفع سيفه ليقتله، فإذا بالكافر يقول: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فلم يجد أسامة بن زيد في ذلك أدنى شك أن الرجل يقولها خوفاً من الموت، فلم يتباطأ في إنزال السيف عليه وقتله.
لكنه بعد أن قتله وقع في نفسه شيء من ذلك، فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقص عليه الخبر، فتعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من سلوك أسامة وأنكره عليه! فأجاب الصحابي أني على يقين من أنه قالها خوفاً من السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟».
إن كلمة التوحيد هي أطيب الكلمات، وبها ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن إهدار الدم إلى حَقْنِه، وإذا كانت كلمة التوحيد هي أطيب الكلمات، فإن الإسلام أمر معتنقيه أن يتمسكوا بالكلام الطيب في كل جوانب الحياة، لما له من مزايا وثمرات، وفيما يأتي بيان بعض المزايا الإيمانية للكلمة الطيبة:
أولاً: الاستجابة لأمر الله تعالى:
أمر الله عز وجل عباده أن يقولوا للناس حسناً، حيث قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83)، وقال عز وجل: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب)، فمن تخير الكلمة الطيبة فقد استجاب لأمر الله تعالى، وقد وعده الله تعالى بإصلاح الحال والمآل، ومن أتى بسوء القول فقد ارتكب ما نهى الله عنه، حيث قال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء: 148).
ثانياً: دليل على استقامة الإنسان:
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»، وإن استقامة اللسان هي السبيل إلى استقامة الجوارح، ففي سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».
ثالثاً: علامة على الإيمان:
وصف الله تعالى المؤمنين بالإعراض عن خبيث القول، وهو اللغو، حيث قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (القصص: 55)، وقال عز وجل: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون).
ومما يدل على أن القول الطيب علامة على الإيمان ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، وروى الترمذي في سننه عن عبدالله بن مسعود أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ».
رابعاً: صفة من صفات عباد الرحمن:
قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63).
خامساً: هداية من الرحمن:
ما أجملها من هداية للمؤمنين، وهي الهداية إلى حسن الكلام، وقد بيّن الله تعالى أن من أعظم نعمه على المؤمنين أن هداهم إلى الكلمة الطيبة، حيث قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج: 24).
سادساً: صدقة:
في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».
سابعاً: تفتح لها أبواب السماء وتصعد إلى الله مع العمل الصالح:
قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10).
ثامناً: سبيل إلى المغفرة:
في صحيح الجامع عَنْ هَانِئِ بْنِ يَزِيد قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمِلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ، بَذْلُ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ».
تاسعاً: تقي صاحبها من النار:
أخرج البخاري، ومسلم، عن عدي بن حاتم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اتَّقُوا النَّارَ»، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ»، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
عاشراً: تسكن صاحبها غرف الجنة وترفعه في درجاتها:
في صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ».
وفي صحيح الجامع عَنْ عَبْدِ للَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا»، قَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ».
وفي صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»، وفي صحيح الترغيب والترهيب عن المقدام بن شريح عن أبيه عن جدّه قال: قلت: يا رسول الله، حدّثني بشيء يوجب لي الجنّة، قال: «موجب الجنّة: إطعام الطّعام، وإفشاء السّلام، وحسن الكلام».