دعت كلية الآداب بجامعة الإسكندرية إلى عقد مؤتمر للغة العربية، تم عقده في 30 صفر إلى 4 ربيع الأول 1402هـ/ 26 – 30 ديسمبر 1981م.
اشترك في هذا المؤتمر نحو من ستين عضواً، يمثلون تسع عشرة كلية، تنتمي إلى عشر جامعات مصرية، وسبع جامعات عربية من السودان والسعودية ولبنان، ومعهم غيرهم من أساتذة العربية في مصر وغيرها من البلاد العربية، وكان مقرر المؤتمر د. محمد مصطفى هدارة، وكيل كلية الآداب للدراسات العليا والبحوث، وعدد ضخم، ولولا ما نحن فيه اليوم، لتضاعف العدد تضاعفاً يذهل ويخيف!
تناول المؤتمر قضية ضعف العربية على ألسنة أبنائها، من أول نشأة الطفل في بيت أمه وأبيه، ثم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، إلى أن ينتهي من دراسته الجامعية شاباً، أو رجلاً على الأصح، في نحو الخامسة والعشرين من عمره، ثم يلتحق بهيئة التدريس الجامعية، أو غيرها من الهيئات والأعمال.
قدم أساتذة المؤتمر أربعة وأربعين بحثاً، درست في المؤتمر العام، ثم في لجانه الخمس المتخصصة، وتخللتها مناقشات طويلة كثيرة دارت بين أعضاء المؤتمر نفسه.
منذ أول يوم في المؤتمر، كانت الصورة قاتمة جدًّا، ومفزعة جدًّا، وظلت كذلك حتى صدرت توصياته تحمل نذير الخطر، وتتلمس في الظلام الدامس سبيلاً إلى النجاة منه، ويكفي أن تلم بمجمل الوصايا الخمس، بأبوابها الثمانية والأربعين، حتى تدرك فداحة الخطر الذي يهدد العربية، وأبناء هذا اللسان العربي:
فالأولى: تتعلق بمرحلة التعليم قبل الجامعي، وفيها سبعة أبواب.
والثانية: تتعلق بالمناهج وطرق التدريس في الجامعة، وهي أحد عشر باباً.
والثالثة: تتعلق بتكوين الطالب الجامعي، وهي سبعة أبواب.
والرابعة: تتعلق بتكوين المدرس الجامعي المتخصص، وهي ثلاثة أبواب.
والخامسة: وهي أخطرهن، تتضمن وصايا جامعة شاملة لكل ما في حياتنا، وهي عشرون باباً.
إحساس غامض مبهم ممزق، ولكنه عميق مزلزل، أستشفه من وراء هذا المؤتمر، ومن تحت أكثر ما أقرؤه أحياناً في الصحف والمجلات والكتب، وما أسمعه في الإذاعات والمجالس، إحساس يرتجف ذعراً بما أصاب العربية اليوم على ألسنة أبنائها من الضعف والخلل والتفكك.
«العربية في خطر داهم»، حقيقة واقعة، نعم، ولكنها جزء يسير من الحقيقة المفزعة الكبرى، لأن الخطر الذي يحيط بالعربية، لا يحيط بها منفصلة عن أصحابها، أصحاب اللسان العربي نفسه وراثة وانتماء، ثم هو لا يحيط بأصحاب اللسان العربي، منفصلاً عن حاضرهم، ولا عن مستقبلهم في هذه الدنيا الواسعة المتصارعة، ولا عن تاريخهم العريق الغائر في أغمض الآباد المتقادمة على طول القرون ولا عن حضاراتهم الغابرة والباقية التي بسطوها على أوسع رقعة من الأرض، من أقصى المغرب غرباً، إلى جوف الصين شرقاً، ومن قلب أوروبا شمالاً إلى أطراف القارتين الأفريقية والآسيوية جنوباً، واستقرت فيها عشرات من القرون، تضيء ثم تكمن ثم تضيء.
«العربية في خطر داهم»، جزء يسير من الحقيقة المفزعة الكبرى، ولكنه الجزء المهدد الذي ينهار البناء كله بانهياره، فإذا انهار، أصبح الحاضر كله، والمستقبل كله، ركاماً وأطلالًا وملاعب يستبيحها من يشاء بما يشاء كما يشاء.
ومع أن هذا هو ما تجده مستكناً في صريح الدعوة إلى هذا المؤتمر وفي وصاياه، فإنه انعقد أياماً ثم انفض، وتلقته بعض أجهزة الإعلام خبراً ضئيلاً يُنشر ثم يطوى، وكأنه كان لغوًا لا يحرك ساكنًا، ولا يثير أحداً، ولا ينذر بخطر، ولا يستحق أن ينال أسطراً قلائل من الآلاف المؤلفة من الأسطر التي تحوزها مشكلات الاقتصاد والإسكان والمرور، أو كرة القدم على الأقل، وهذا وحده نذير بشرّ لا يعلم إلَّا الله مداه.
أمر محزن أن تبلغ الاستهانة بشأن اللغة هذا المبلغ، موقف لا مثيل له في تاريخ أمم العالم، لأنه يخالف طبيعة الإنسان الذي ميزه الله من سائر خلقه باللغة والبيان، في قصة طويلة معقدة، منذ دب على الأرض أبونا آدم عليه السلام، وتكاثر أبناؤه حتى عمروا وجه الأرض، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وصاروا شعوباً وقبائل وأممًا تتعارف وتتناكر على مر آلاف مؤلفة من السنين.
ضعف في اللغة يستشرى جيلاً بعد جيل، واستهانة بما يصيب اللغة تتفاقم جيلاً بعد جيل، موقف فريد مناقض للطبيعة، تقفه أمة العرب ومن ينتمون إليهم بالدين الواحد والحضارة الواحدة، أو باللسان الواحد والحضارة الواحدة وإن خالفوهم في الدين.
كيف تم هذا كله؟ لا بد من تفسير لما حدث كيف حدث، وإلاّ فلا علاج لعلة لا يعرف الطيب أسبابها ولا نشأتها ولا تاريخها، وكفى بالطيب جهلًا أن يعالج أعراض الداء، والداء في مكمنه حي طليق مسيطر مستبد.
________________________
المصدر: كتاب «جمهرة مقالات محمود شاكر».