يمكننا النظر للزي الشرعي للمرأة المسلمة (الحجاب) من أكثر من زاوية، فمن الناحية الدينية يعد الحجاب فريضة شرعية جاءت بها آيات محكمات، ومن الناحية الاجتماعية والأخلاقية يمثل الحجاب عاملاً مساعداً في ضبط السلوك المجتمعي، وهو أحد المقاصد التشريعية لهذه الفريضة، ومن الناحية المجتمعية يحد الحجاب من الفوارق الاجتماعية الباهظة بين الطبقات، ومن الناحية السياسية مثّل الحجاب رمزاً لنجاح التيارات السياسية ذات المرجعية الدينية، ومن الناحية الحضارية اعتبر الحجاب إحدى أكبر الشارات التي تمثل هوية حضارتنا الإسلامية، ومن ثم لاقى كثيراً من الرفض والتعنت من قبل الآخر الحضاري خاصة في ثوبه الغربي.
ذوبان أم اندماج
يبدو الحجاب رمزاً لإشكالية فكرية كبيرة تمر بها أمتنا، يقف على أحد الأطراف موقف منغلق تماماً على الهوية بما فيها من تراث حضاري تاريخي، واضعاً الآخر المختلف في دائرة الاتهام والشك، جاعلاً من نظرية المؤامرة مذكرة تفسيرية لكل ما يدور من أحداث؛ لذلك يرى هذا الطرف أن أي محاولة لربط الحجاب بالموضة أو «اللايف إستايل» مؤامرة لتفريغ الحجاب من مضمونه، يقف على رأسها الغرب وأعوانه، فبدلاً من منع الحجاب كما فعلت فرنسا بعلمانيتها المتطرفة، يتم تحويل الحجاب إلى «لا حجاب»، مجرد غطاء صغير يحجب جزءاً صغيراً من الشعر، ثم يشف ويصف باقي الجسد؛ فيذوب الحجاب ومعه الهوية الحضارية للأمة.
في المقابل، يوجد طرف ثان من داخل الدائرة الإسلامية، يرى أن هناك استسلاماً لمشاعر الخوف الناجمة من تراجعنا الحضاري دفعتنا للتوسع في قاعدة سد الذرائع والتمسك ببعض النماذج التاريخية للباس دون سند شرعي، وبالتالي خاصمنا تيار الحداثة والمعاصرة، ويرى أنصار هذا التيار أنه يمكننا الاندماج ونحن نحافظ على هويتنا الحقيقية بعد أن نقوم بنقد التراث وغربلته وفصل ما هو ديني عما هو تقاليد بشرية، وبالمثل يمكن للمرأة المسلمة أن ترتدي حجاباً يستوفي الشروط الشرعية كلها، وفي الوقت ذاته يكون متماشياً مع خطوط الموضة، بل و«الترند» أيضاً!
شرعي و«ترندي»!
وفي هذا السياق، انتشرت العديد من الصفحات والمدونات التي تسعى للجمع بين شرعية اللباس وتماشيه مع الموضة، وتابعت الملايين من الفتيات شهيرات «إنستجرام» و«تيك توك»، وهن يقدمن نصائح ونماذج للملابس التي تجمع بين الشرعية والعصرية معاً.
«البراندات» العالمية سعت هي الأخرى للاستثمار في سوق ملابس المحجبات، وأصبح هناك ما يطلق عليه عروض أزياء المحجبات، وعارضات الأزياء المحجبات، وتم استثمار المليارات في هذه السوق الواعدة بقوتها الشرائية العالية، ولكن السؤال ما زال معلقاً: هل تتصف هذه السوق بالالتزام بالشروط الشرعية للحجاب؟ وهو سؤال لا يمكن حسم إجابته، فتوجد كثير من الملابس الواسعة الفضفاضة الساترة التي لا تشف ولا تصف ولا تتسم بأي بهرجة، وفي المقابل توجد الكثير والكثير من الملابس التي توصف بأنها خاصة بالمحجبات ولكنها ضيقة ولافتة، ويغيب عنها واحد أو أكثر من الشروط الشرعية، ويبقى الخيار الأخير للمرأة المسلمة في انتقاء ما يرضي ربها ثم يناسب ذوقها.
لكننا لا يمكن أن ننكر أن كثرة الزي غير الشرعي المندرج تحت اسم ملابس المحجبات يمثل ضغطاً وفتنة على الفتاة المسلمة، ويدعوها لبعض التنازل حتى تتماشى مع المعروض في السوق، الأسوأ من ذلك أنه وبمرور الوقت والإقبال على هذه النوعية من الملابس «الترندي» غير المطابقة للمواصفات الشرعية تقل صناعة وإنتاج الملابس الشرعية ذات الذوق الرفيع، وتشح حد الندرة، بحيث تكاد الفتيات يضطررن لشراء الملابس الأخرى فترتفع مبيعاتها ومن ثم إنتاجها في دائرة بائسة تخنق إنتاج الملابس الشرعية الراقية.
يدافع البعض عن الملابس «الترندي» غير المستوفية للشروط الشرعية بأنها تجذب كثيراً من الفتيات المتبرجات كخطوة أولى أو تمهيدية للدخول لعالم الحجاب، وفي هذا السياق أيضاً لا يمكن تجاهل موضة اللباس المحتشم التي تسود أنحاء كثيرة من العالم بما فيها العالم غير الإسلامي، باعتباره أكثر رقياً من الملابس المبتذلة التي تكشف وتصف الجسد الأنثوي، وبينما يرى أنصار الطرف الأول أنه لا جدوى من هذه المحاولات غير التشويش على الحقائق الناصعة والواضحة للملابس الشرعية، يرى أنصار الطرف الثاني أنه لا ينبغي الاستخفاف بأي جهد مهما كان بسيطاً، فعلينا أن نقدر مثقال الذرة من الخير وتبرج الجاهلية الأولى أخف وطأة من نوادي العراة.
أبعاد نفسية
يبدو، إذن، بوضوح أن الجمع بين كون الملابس شرعية و«إستايل ترندي» في الوقت ذاته يمثل معادلة صعبة، الحل إذا أردنا الصدق في التحليل، لكن هل تستحق محاولة الجمع بين شرعية الملابس وأناقتها في الوقت ذاته هذا الجهد في البحث والتحليل والسعي وراء حل واقعي، ألا يعتبر ذلك بمثابة هزيمة نفسية أمام حضارة تعتبر قيمة الجسد مركزية وتعتبر نفسها الوحيدة التي تمتلك حق تحديد الأنيق من غير ذلك؟ هل تعتبر محاولة الجمع هذه تلفيقاً وفخاً يراد لنا السقوط في هوته السحيقة؟
في رأيي، أن محاولة التوفيق وحل المعادلة الصعبة أمر في غاية الأهمية إذا أردنا الواقعية في الطرح وعدم إغفال أي معطى، وأهم هذه المعطيات بالفعل أننا في عصر تبدلت ملامحه عن الماضي، فلم يعد ثمة دار إسلام ودار كفر بالمعنى القديم، والجاليات المسلمة الكبيرة الموجودة في الغرب خير شاهد على ذلك، ووسائل التواصل الاجتماعي بمن فيها من المؤثرين هي الأخرى أصبحت حقيقة واقعية، ووفرة البضائع والسلع والمنتجات حقيقة أخرى، ومساحات الحرية الاجتماعية وحركات التمرد المتنوعة حقيقة أيضاً، والرغبة العميقة لدى الفتيات في الظهور بمظهر أنيق وعصري حقيقة أيضاً لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، وإن كان حب الزينة ركيزة فطرية في الأنثى؛ (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف: 18).
إننا في عصر احتلت فيه قيم الجمال مكانة عالية لا يمكن تجاهلها، ولكن يمكن تهذيبها بالمعايير الشرعية؛ (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31)، فتكون الثياب الراقية المنسقة أو الخاتم الجميل البسيط ونحو ذلك من مكملات الأناقة بمثابة إشباع لهذه الحاجات الأنثوية العميقة، وإن كانت زينة المرأة الباطنة تمثل مجالها الخاص في البيت بحيث يتم إشباع هذه الحاجة النفسية بشكل كامل، فإن زينة المرأة الظاهرة تمنحها الإحساس بالثقة في النفس وسهولة الحركة والانتقال، لذلك فالحاجة ماسة لصناعة خطوط إنتاج توفق بين طرفي هذه المعادلة دون تنازل أو تلفيق، والأمر ليس معقداً، خاصة أن صناعة الملابس والمنسوجات من الصناعات المتوطنة في بلادنا.
ليست هذه دعوى للتنازل أمام الأمر الواقع أو رفعاً لراية الهزيمة في زمن العولمة، وإنما حسن قراءة لمعطيات الواقع بما لا يمس القواعد الشرعية المقررة مع عدم قولبتها في أي تقليد تاريخي بعيداً عن عصر النبوة.
إن إمكانية الجمع بين الحجاب والأناقة تساعد الفتاة المسلمة على تقليل مساحة الفتنة لا العكس، كما أنها ترفع كثيراً من الضغط النفسي عن عاتقها، وإن كان ثمة معركة على المرأة المسلمة أن تخوضها فلتكن معركة حقيقية وليست معركة متوهمة، الحجاب معركة ثوابت، أما صورته أياً كانت ما دامت تحقق الشروط فهي من المتغيرات، بحيث يبقى الحجاب عبادة ورمزاً وشوكة في حلق مبغضيه.