وسط تصاعد العدوان «الإسرائيلي» على غزة واستمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين للعام الثاني، جاء قرار حكومة الاحتلال بإنهاء عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ليضيف حلقة خطيرة في سلسلة المحاولات المستمرة لتصفية قضية اللاجئين وطمس حقوقهم التاريخية.
لم يعد هذا القرار مجرد إجراء إداري، بل تحول إلى سلاح سياسي يستهدف قلب القضية الفلسطينية وحق العودة، ويجعل من المعاناة اليومية في القطاع جزءاً من عملية تطهير وتهميش ممنهجة، ترمي إلى تقويض الوجود الفلسطيني برمته.
تأسست «الأونروا» عام 1949م، كجزء من مسؤولية المجتمع الدولي نحو اللاجئين الفلسطينيين الذين شُردوا جراء نكبة 1948م، وظلت تقدم خدماتها الإنسانية لأكثر من 5.7 ملايين لاجئ فلسطيني، بينهم 540 ألف طالب يعتمدون على تعليمها، وملايين يتلقون منها خدمات الصحة والغذاء والإغاثة.
في غزة، التي تُعاني من حصار مشدد ودمار شامل، يُشكّل هذا القرار ضربة قاسية للمجتمع الفلسطيني المثقل بالفقر والبطالة؛ حيث يتجاوز معدل البطالة 47%، ويعيش نحو 60% من سكان القطاع تحت خط الفقر، وهكذا، فإن إنهاء خدمات «الأونروا» يعني تفاقم المعاناة الإنسانية لتصبح كارثة شاملة في ظل غياب البدائل، وتدفع المجتمع إلى أزمات أعمق وتحديات يصعب تجاوزها.
يُضاف إلى ذلك البُعد الثقافي والوطني لـ«الأونروا»، إذ تسهم عبر مناهجها التعليمية في ترسيخ الوعي الوطني وحق العودة للأجيال الشابة.
على مر العقود، أدت الأونروا دوراً حيوياً في إبقاء الذاكرة الفلسطينية حيّة، وأصبح الطلاب اللاجئون يدركون حقوقهم التاريخية، ويترسخ لديهم الشعور بالهوية رغم كل محاولات الاحتلال لطمس هذه الذاكرة.
إن إلغاء هذه البرامج التعليمية يصب في صالح الاحتلال؛ إذ يسعى لإنتاج جيل فلسطيني منفصل عن تاريخه وحقوقه؛ ما يجعل الهوية الفلسطينية عرضة للضياع ويخدم مخططات الاحتلال الهادفة إلى تفكيك النسيج الوطني الفلسطيني وتفتيت الوعي الجمعي.
وفي الدول المضيفة للاجئين، وخاصة في لبنان وسورية والأردن، تعتمد المجتمعات الفلسطينية بشكل كبير على خدمات «الأونروا»، في ظل ظروف اقتصادية صعبة وضغوط متزايدة تعاني منها هذه الدول.
تُقدّر الإحصاءات أن حوالي 65% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، على سبيل المثال، يعيشون تحت خط الفقر ويعتمدون كلياً على دعم الأونروا، إذا توقفت هذه الخدمات؛ ستزيد الأعباء الاقتصادية والاجتماعية على هذه الدول، مهددة بخلق توترات اجتماعية جديدة قد تؤدي إلى مشكلات أمنية واجتماعية خطيرة داخل هذه المجتمعات.
ويمثل القرار كذلك ضربة قاصمة لحق العودة، الذي تُؤكده قرارات الأمم المتحدة، وأبرزها القرار (194) لعام 1948م، فـ«الأونروا» ليست مجرد منظمة إنسانية، بل رمز مستمر يؤكد مسؤولية المجتمع الدولي نحو حق العودة، ويربط اللاجئين بوطنهم الأصلي ويعزز ارتباطهم بأرضهم.
من خلال إنهاء عمل «الأونروا»، يسعى الاحتلال إلى تحويل قضية اللاجئين الفلسطينيين من قضية وطنية متأصلة إلى قضية إنسانية بحتة، متجاهلاً الأبعاد التاريخية والقانونية للقضية، هذا يُسهّل على الاحتلال التعامل مع قضية اللاجئين وكأنها مجرد مشكلة عابرة يمكن تجاهلها أو حصرها في نطاق مؤقت، ما يهدد بتصفية القضية الفلسطينية بشكل شامل.
إقليمياً ودولياً، يحمل هذا القرار تبعات كارثية قد تتجاوز حدود المنطقة، فوفقاً لتقارير البنك الدولي، يُتوقع أن يؤدي توقف خدمات «الأونروا» إلى موجة من الهجرة غير النظامية للاجئين الفلسطينيين، حيث تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 40% من اللاجئين قد يلجؤون للهجرة بحثاً عن حياة أفضل في أوروبا أو غيرها؛ ما يشكل ضغطاً كبيراً على الدول المستقبلة ويزيد من حدة الأزمات الإنسانية، هذه التطورات تضع العالم أمام مسؤولية كبرى في معالجة أزمة اللاجئين وتوفير حلول عادلة ومستدامة، بدلاً من تركهم في مواجهة مصير مجهول.
ومن الناحية الميدانية، يستفيد الاحتلال من غياب «الأونروا» لتعزيز سياساته الاستيطانية التوسعية، وخاصة في الضفة الغربية، فقد وثّق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) مصادرة الاحتلال لما يقارب 2000 دونم من الأراضي الفلسطينية خلال عام 2023م فقط، في إطار سياسة تهويد ممنهجة تسعى لخلق واقع جغرافي جديد يُعيق أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويدفع بالفلسطينيين نحو الزوال السياسي، ومع استمرار المشاريع الاستيطانية، يصبح الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة أشبه بحلم بعيد المنال، في ظل واقع تفرض فيه المستوطنات طوقاً خانقاً على القرى والمدن الفلسطينية.
أخلاقياً، يمثل هذا القرار فشلاً مجتمعياً دولياً في تحمل مسؤولياته نحو الشعب الفلسطيني، لأن «الأونروا» ليست مجرد جهة داعمة، بل هي التزام قانوني وأخلاقي أقرّته الأمم المتحدة، ووجودها يمثل إقراراً بمسؤولية المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة، انسحاب المجتمع الدولي من هذه المسؤولية يعني تخلّيه عن اللاجئين، وتركهم لمواجهة مصيرهم دون حماية أو دعم.
هذا التقاعس يعزز من مشاعر الإحباط والغضب لدى الفلسطينيين، ويزيد من تآكل الثقة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، ما قد يدفعهم للبحث عن وسائل أخرى للتأكيد على حقوقهم وصيانة قضيتهم العادلة.
يتطلب هذا القرار استجابة قوية وحازمة من المجتمع الدولي، فهو يمثل اعتداءً سافراً على حق العودة وحقوق اللاجئين الفلسطينيين، وعلى الدول المؤثرة أن تتخذ موقفاً صارماً يدعم استمرار «الأونروا» كركيزة من ركائز العدالة الدولية التي لا يمكن تجاهلها أو التخلي عنها.
إن إنهاء «الأونروا» لا يعني إنهاء حق العودة، بل يزيد من إصرار الفلسطينيين على التمسك بحقوقهم واستعادة أرضهم، وسيبقى حق العودة عنواناً لصمودهم وأملهم في الحرية والكرامة، مهما حاولت قوى الاحتلال تغييب هذه القضية أو طمسها.