إن العقل ليس مجرد آلة أو أداة يستطيع بها الإنسان أن يفكِّر، بل هو نفحة ونور من الله تعالى امتنَّ به على الإنسان، وميَّزه به عن سائر المخلوقات؛ فالحيوان يحيا ويعيش وفق غرائز وشهوات تُسيِّره في الحياة من مأكل ومشرب ومنكح، ولكنه فاقد للعقل الذي به التكليف(1)، وإن كان عنده هداية فطرية وإدراك بطريقة ما، هذا العقل يتمُّ من خلاله استقبالُ الوحي من السماء، فيكون العقل بالفهم والوعي معضِّدًا للقلب بالإيمان واليقين.
ومن خلال هذا العقل يجتهد الإنسان في الدنيا مستكشفًا ومبتكرًا، وفي الشرع مجتهدًا فيما لا نصَّ فيه؛ حتى تنعمَ الأمة في رحاب دين الله، والعقل نور من الله، والوحي نور من الله، وأنوار الله تعالى تتعاضد ولا تتعارض، قال الحسن البصري: «لما خلق الله عز وجل العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك؛ إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أُعطي»(2).
والعقلُ من خلاله تتشكَّل الرؤى والتصورات التي تنبني عليها المواقف والأفعال، وتنشأ النظريات والأفكار من خلال إعمال الفكر واجتهاد الرأي والتأمُّل في الطبيعة، ومجال العقل في التفكر والنظر محصور في عالم الشهادة، أو ما تم التعبير عنه بالقول: فيما دون السماء؛ لأن ما فوق السماء هو عالم غيبٍ يكون العلم عنه بالخبر الصادق الذي جاء به الوحي الصحيح، فالعقل في عالم الشهادة يعتمد على النظر والتجربة والمشاهدة، لكنه لا يملك في عالم الغيب تلك الأدوات المعينة على اكتناه أسراره.
وهذا ليس طعنًا في العقل، بل هو استخدام وتوظيف للعقل فيما هو مُهيأ له، وليس مطلوبًا من العقل أن يفكر في كل شيء؛ فهذا إهدار لطاقته فيما لا يملك عليه دليلاً، أو فيما لا يمكنه إثباته علميًّا؛ لذا قال بعض الحكماء: «لا ينبغي لعاقل أن يعرض عقله للنظر في كل شيء، كما لا ينبغي أن يضرب بسيفه كل شيء»(3)، وقد زل بعض من أذكياء العالم عندما استخدموا العقل فيما لم يحيطوا به علمًا، وكان أوسع وأعظم من مداركهم المحدودة الضعيفة.
فهذا الفيلسوف المصري أفلوطين (205 – 270م) شغله كيف يصدر هذا العالم بكل تنوعاته وكثرته عن الله تعالى الواحد، فقال بنظرية الصدور أو الفيض، التي تقول: «إن الموجودات صدرت أو فاضت عن الأول -أي الله- كما يفيض النور عن الشمس.. وقد فاضت هذه الموجودات عن الله وفق نظام متراتب الدرجات، وليس دفعة واحدة؛ فالواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ثم يصدر عن هذا الواحد، واحد آخر، وهكذا إلى آخر مراتب العقول والأنفس والأجسام»(4).
وقد تلقف هذه النظرية فلاسفة مسلمون، مثل الفارابي، وابن سينا، وحاولوا التلفيق بينها وبين الإسلام، وهي نظريات تفرض الخلق المباشر بقوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82).
وابن سينا عندما استخدم عقله في عالم الشهادة في التجارب العلمية والمشاهدات كان من أعظم العقول الطبية في العالم، لكنه لما استخدم عقله في عالم الغيب وجعله تابعًا لنظريات وثنية، ولم يهتد بنور الوحي، أظلم هذا العقل وانطفأ نوره، وزل في الأوهام والظنون التي هي خرافات وأبعد ما تكون عن العلم اليقيني.
وأبو الهذيل العلاف لم يستوعب عقله فكرة الخلود لأهل الجنة والنار فـ«زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع، ويبقون في سكون دائم»(5).
وسيد القمني يسخر من الإسراء والمعراج، وما حدث بين النبيين محمد، وموسى، عليهما السلام، في أمر فرض الصلاة، واستهزأ من تحول العصا لحية بين يدي فرعون، واعتبر ذلك من ألعاب السيرك(6)!
فهؤلاء واقعون تحت قوله تعالى: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام: 148)، فهم أعرضوا عن الخبر الصادق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ووثقوا في عقولهم غير المؤهلة للبحث في فيما فوق السماء من غيبيات، فهؤلاء وأمثالهم قديمًا وحديثًا زجوا بالعقل في غير ما خُلق له، وأزروا به، وظنوا أن عقولهم قادرة على اختراق حُجب الغيب، والتفكر وإجالة النظر فيه، فسقطوا في أمور لم يقع فيها العوام والأغمار وتنزهوا عنها.
وقد وضَّح الإسلام حدود العقل ومجالات تفكيره؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «تفكَّروا في خلْق الله، ولا تفكَّروا في الله فتهلكوا»(7)، وقال د. محمد السيد الجليند: «إن من يفكر في ذات الله كالناظر إلى قرص الشمس، فإنه لا يزداد بكثرة النظر إليه إلا عمى»، وصدق القائل: العَجزُ عَن دَركِ الإِدراكِ إدراكُ وَالبُحثُ عَن سِرِّ ذاتِ السِرِّ إِشراكُ(8).
فإذا تأدب العقل وبحث فيما تحت السماء أوشك أن يصل إلى حظيرة القدس وينال القرب، وتنفتح له من خزائن العلوم ما ينفع به نفسه والبشرية، لكن إذا تجاوز الحد ونظر فيما فوق السماء فهو تابع للشيطان، بعيد عن الرحمن، واقع في الغي والضلالة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ»(9).
________________________
(1) قال ابن العربي: «وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ» (أحكام القرآن، 3/ 472).
(2) شعب الإيمان للبيهقي (4/ 154).
(3) العقل وفضله لابن أبي الدنيا، ص 46.
(4) الموسوعة العربية، مادة «فيض»، https://arab-ency.com.sy/ency/details/8304/15.
(5) منهاج السُّنة النبوية لابن تيمية (1/ 147).
(6) قال ذلك في ندوة ثقافية بحزب المصريين الأحرار بتاريخ 1/ 3/ 2014م.
(7) العظمة لأبي الشيخ، ص 215.
(8) منسوب للإمام عليّ رضي الله عنه.
(9) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(8376)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.