في عالم اختلطت فيه بعض المفاهيم المتعلقة بالحداثة والتطوير والتعلم بمفاهيم العولمة واختلاط الثقافات والذوبان الأخلاقي بين الحضارات المختلفة، وقع البعض في الخلط بين مفهومي الحداثة والعولمة ظناً منهم أنهما مفهوم واحد لتشابه بعض التأثيرات الخاصة بهما على المجتمعات.
وبالرغم من ذلك التشابه المحدود في سلوك الفكرتين في بعض مراحل عملهما مثل التغيير والتطوير، فإن لكل منهما أبعاداً وأهدافاً مختلفة تنعكس على المجتمعات بطرق متعددة.
فالحداثة جاءت في محاولة لتحرير الإنسان من قيود الماضي والتقاليد، متبنية أفكار التجديد والإبداع، بينما تسعى العولمة إلى خلق ترابط عالمي يجمع الثقافات والاقتصادات في إطار مشترك، متجاوزة الحدود الجغرافية والسياسية.
وسنتناول في هذا المقال أبرز نقاط الاختلاف بين الحداثة والعولمة، لنفهم تأثير كل منهما على المجتمعات وكيفية تطورهما بشكل مستقل.
الحداثة والعولمة اصطلاحاً
أولاً: الحداثة: تتعدد تعريفات الحداثة حسب ثقافة كل مجتمع، فهي بشكلها العام، توصف بأنّها منهج فكري يتبنى التجديد، وقد نتج عنه أسلوب تعبيري متحيّز لتحديث شكل ومضمون المنتجات الأدبية والفنية، مع إصراره على رفض الصلة بالموروث القديم في الفن والأدب(1).
فقد كانت بدايات هذا المنهج التجديدي مع أواخر القرن التاسع عشر، إلى منتصف القرن العشرين، سيراً على خطى التقدم الصناعي والاجتماعي والفلسفي الذي شهدته القارة الأوروبية والعالم، لا سيما بعد الحرب العالمية الأولى(2).
إن الحداثة حركة فكرية وفنية واجتماعية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالتزامن مع حركة الاستعمار، وحركة الاستشراق، تهدف في الأساس إلى التغيير والتجديد في الفكر والفن والسياسة، تدعو إلى كسر التقاليد القديمة وتشجيع الابتكار والحرية الفردية والعقلانية، وتمثل الحداثة انفصالاً عن الماضي، وتطلعاً نحو المستقبل، حيث تعتبر أن الإنسان قادر على تحقيق تقدم ملموس من خلال العلم والمعرفة والفكر النقدي، وغالباً ما ترتبط بظهور الحركات الفنية مثل السريالية والتكعيبية والتغيرات الاجتماعية في الغرب كالنهضة الصناعية والثورات الاجتماعية.
والحداثة تدعو كما ادعى بعض مروجوها إلى التجديد والتغيير داخل الإطار الثقافي أو الثوابت المجتمعية، لكنها في حقيقتها غالباً ما تتعلق بالتحرر من القيم والموروثات الدينية التقليدية، وأما في المفهوم الغربي فهي تعرف بأنها: «انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه»(3).
ثانياً: العولمة: تعرف بأنها زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية، من خلال عمليات انتقال السلع، ورؤوس الأموال، وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات(4).
أما في الأدبيات الإسلامية فالعولمة هي مرحلة من مراحل الصراع الحضاري يسعى فيها الغرب لسيطرة نموذجه عالمياً بالاعتماد على التفوق المادي لتحقيق مكاسب أكبر في مختلف مجالات الحياة البشرية(5).
وهي ظاهرة حديثة نسبياً ظهرت منذ منتصف القرن العشرين، وتشير إلى التداخل بين ثقافات شعوب العالم في مختلف المجالات لتذوب جميعها في الثقافة الغربية خاصة الأمريكية منها، تتجسد العولمة في انتشار السلع والثقافات العالمية، وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتقال الأفكار والأشخاص والبضائع بسهولة أكبر عبر الحدود، العولمة تهدف إلى توحيد العالم وخلق تداخل ثقافي واقتصادي عالمي يتجاوز الحدود الوطنية.
وسائل التمدد الثقافي
تتعدد وسائل التمدد داخل المجتمعات بالنسبة للحداثة والعولمة، بحيث تشمل عدة أدوات لكل منهما تتعلق بالثقافة السائدة في هذا المجتمع، وبنمط الحياة الاجتماعية فيه، بحيث تستطيع تشكيل أنماط جديدة من التفكير والسلوك لدى أفراد المجتمع من الأساس.
أولاً: وسائل انتشار فكرة الحداثة في مجتمع ما:
1- الفن والأدب: الحداثيون لا يصدمون الناس في عقيدتهم حتى لا يخسروهم جملة، وإنما يقبلون بالتغيير البطيء، والجزئي؛ حتى يتم لهم تحقيق مآربهم، وكان الفن والأدب والتعليم أهم وسائل الدعوة إلى الحداثة، ولو لاحظنا في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كيف انتشرت فكرة الأدب المكشوف، وكذلك فن العري والتقليد الأعمى ليصير الحجاب وتفرغ المرأة لبيتها أفكاراً رجعية يجب التخلص منها.
2- الجامعات والمؤسسات الأكاديمية: وقد ساهمت المناهج الجامعية خاصة للأساتذة العائدين من الخارج والذين تلقوا دراساتهم العليا في أوروبا وأمريكا في نشر فكرة الحداثة، ووصم كافة الموروثات بالتخلف والرجعية والجهل، خاصة مع ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي بين التعليم الديني والتعليم العام.
3- الصحافة والمجلات الأدبية: وتأثرت كذلك الصحافة والمجلات الأدبية والتي كانت رافداً مهماً للأعمال الفنية وإبراز نجاحات الفنانين والأدباء لتصورهم قادة مجتمع ورموز يجب أن تحتذى ليقع جانب كبير من الشباب في الفخ.
4- الحركات السياسية والاجتماعية: وساهمت الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والحقوقية، وجمعيات المرأة في انتشار الفكر الحداثي خاصة فيما يتعلق بالمرأة وتعليمها بالصورة الحالية المختلطة في المدارس والجامعات وسوق العمل، وصار الطبيعي أن تعمل المرأة خارج بيتها على حساب مهمتها الأساسية التي نتج عنها الكثير من الموبقات الأخلاقية التي تعانيها مجتمعاتنا اليوم باسم الحداثة والتطوير.
ثانياً: وسائل انتشار العولمة في المجتمع:
1- الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي: من أهم الوسائل التي اعتمدت عليها فكرة العولمة وسائل الاتصال الحديثة ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، والعولمة لم تنشأ لمجرد عملية التجديد والتطوير، وإنما العولمة أتت تحمل هوية وثقافة تريد فرضها على العالم بما فيه أوروبا، وليس المسلمون وحدهم، أو باختصار أتت بخطة إحلال وتبديل، وفي الوقت الذي أقصى ما يطمح إليها أصحاب الحداثة هو التخلي عن العادات والموروثات، فإن العولمة تطمح لأن يتحول الجميع لسوق استهلاكية تتلقى الأخلاق، كما تتلقى السلع.
2- التجارة العالمية وشركات متعدية الجنسيات: وفكرة العولمة نشـأت بالأساس كفكرة اقتصادية، وعلى وجه الخصوص كفكرة رأسمالية وطغيان المال الغربي وتحكمه بالسوق العالمية، وقد استخدمت العولمة التجارة العالمية والشركات الكبرى والتجارة الدولية وحاجة العالم الثالث لكل ما هو جديد ليتحول عبر العولمة إلى أكبر سوق استهلاكية بالعالم.
3- الإعلام الدولي: ونشطت حركة الإعلام الدولي قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، عبر الفضائيات الأوروبية والعربية فيما بعد، وانتقلت هوليوود بكل ما تحمله من ثقافة للبيت المسلم بكل بساطة ودون أي رقابة تذكر.
4- السفر والهجرة: ومثل السفر والتعليم بالخارج والاختلاط بالآخر محطة مهمة في نقل ثقافة العولمة من الغرب إلى الشرق، وفي مجمل القول، فإن العولمة استخدمت التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام التي يملك الغرب توجيهها لدفع العالم نحو توحيد ثقافته العلمانية المادية.
التأثيرات المشتركة على المجتمعات المسلمة
اشتركت كل من الحداثة الغربية والعولمة في التأثير السلبي على المجتمعات المسلمة والتقت في عدة محاور:
1- من حيث التغيرات الثقافية، فقد ساهمت كلتاهما على نقل القيم الثقافية الغربية إلى العالم الإسلامية عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أنشأها الغرب واستخدمها وتحكم بها، وأثر على مظاهر الحياة في الشرق الإسلامي كشكل الملابس وأنماط الحياة الاجتماعية والعلاقات الفردية بين الجنسين.
2- من حيث التغيرات الاقتصادية، وقد أتاحتا نوعاً من الانفتاح غير المشروط، فاعتمد شباب المسلمين على السلع الغربية بكل ما تمثله من مظاهر غريبة علينا كمسلمين.
3-الهوية الثقافية، حيث مثلت العولمة تهديداً كبيراً على الهوية الدينية ببلاد المسلمين، واستطاعت تطبيع الأخلاق الغربية مثل ظاهرة الاختلاط في التعليم والأندية.
4- الجوانب السياسية، ربما ساهمت العولمة في تشكيل قيم الوعي السياسي والحرية؛ مما ساهم في تكوين جماعات وأحزاب تطالب بالحريات وإعطاء مساحات كافية لإبداء الرأي.
مفهوم الحداثة في الفكر الإسلامي المعاصر
في دراسة أكاديمية للباحث رحمان عبد الحق(6)، يستعرض فيها آراء المفكرين المعاصرين عن مفهومي الحداثة والعولمة يقول في أحد فقراتها: «انخرط المفكرون المسلمون المعاصرون في خطاب حيوي حول العلاقة بين الإسلام والحداثة، فيجادل البعض بأن الإسلام لا يتوافق بطبيعته مع الحداثة، بينما يعتقد البعض الآخر أنه من الممكن التوفيق بين الاثنين، فعلى سبيل المثال يقترح المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش فهمًا جديدًا للتجديد يقوم على فكرة الاجتهاد أو التفكير المستقل، ويجادل بأنه يجب على المسلمين الانخراط في الاجتهاد من أجل إيجاد طرق جديدة لعيش الإسلام في العالم الحديث. ويعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان بقاء الإسلام وثيق الصلة وحيويًا.
والمفكر الثاني الذي استشهد به الباحث هو المفكر فتحي يكن الذي كتب بإسهاب عن العلاقة بين الإسلام والحداثة، يجادل بأن الإسلام هو دين التجديد، وأن المسلمين يتحملون مسؤولية تكييف دينهم مع الاحتياجات المتغيرة للعالم الحديث.
تستند آراء يكن حول العلاقة بين التجديد والحداثة إلى فهمه للتقاليد الإسلامية، ويجادل بأن الإسلام دين ديناميكي ومتطور كان دائمًا مفتوحًا للتغيير، ويشير إلى مثال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان مصلحا سعى إلى تجديد الدين، وفي القرون التي تلت ذلك، واصل العلماء والمفكرون المسلمون هذا التقليد من التجديد، واستجابوا لتحديات عصرهم بتفسيرات جديدة للشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي داخل دائرة الثوابت، يرى يكن بأن العالم الحديث يمثل تحديات جديدة للمسلمين، وبأنه يجب على المسلمين إيجاد طرق جديدة لعيش إيمانهم في عالم يزداد علمانيًا وماديًا. كما يرى بأنه يجب على المسلمين إيجاد طرق جديدة للرد على تحديات العولمة».
إن مفاهيم الحداثة وإن اختلفت عن مفاهيم العولمة، فإنها لا تخرج من سيطرتها أو عن دائرتها، وإن الإسلام يعترف بالتجديد الذي يتلاءم مع المعاصرة وقد قام بالتجديد فقهاء وعلماء مسلمون استطاعوا أن يعبروا بالإسلام فترات يمكن أن توصف بأنها صعبة، وذلك بمرونة الفكر الإسلام وقابليته للتعايش مع كل عصر، ومع كل جنس.
______________________
(1) modernism, dictionary.cambridge.org, Retrieved 13-1-2019. Edited.
(2) ↑ Kathleen Kuiper, Modernism، britannica.com, Retrieved 13-1-2019. Edited.
(3) تقويم نظرية الحداثة د. عدنان على رضا النحوي، ص 35.
(4) العولمة د. عبدالكريم بكار، ص 12.
(5) البعد الديني ومفهوم العولمة، الخضر الشيباني، ص 8.
(6) دراسة بعنوان «العلاقة بين التجديد والحداثة في الحركات الإسلامية»، بمركز المجدد للبحوث والدراسات.