لم يعد تعداد الشهداء بمنازل الآحاد، فقد تجاوز ذلك بكثير لا مئات ولا آلاف، بل عشرات الآلاف.
فقد مسحت عائلات بأكملها من السجل المدني، والكثير منها ما زالت جثامينهم تحت ركام منازلهم منذ الشهور الأولى للحرب وإلى الآن، فكانت بيوتهم بمثابة قبور احتضنتهم بعد فشل محاولات إنقاذهم، ولم يعد الحديث عن جثامين، إنما أوزان لأشلاء تحسب بالكيلو اختلطت مع ركام الحجارة الشاهدة على الإبادة!
نفاد الأكفان!
لم ينقطع الطعام والمساعدات الإنسانية فحسب؛ بل حتى الأكفان فقد نفدت، ولم يعد لها وجود بعد الارتفاع الكبير في أعداد الشهداء، فتارة يكون البديل بطانية أو أكياس النايلون!
المجازر متوالية، والقصف لا يعرف الهدنة أو حتى استراحة مقاتل، الشمال يباد، والمجاعة انتشرت بكافة أنحاء غزة من شمالها إلى جنوبها، فالأجساد منهكة.
أصبحت الكلمات ثقيلة وعاجزة عن وصف الإبادة والحصار والقصف والجوع والنزوح.
هي ليست معركة واحدة؛ بل معارك غير متكافئة العتاد، فالاحتلال تتدفق له الأسلحة بالمليارات التي صنفت بأنها محرمة دولية، في المقابل قطعت أبسط الإمدادات من المساعدات الغذائية الشحيحة بالأصل عن غزة.
لا أعلم كم ينبغي لأهل غزة أن يخوضوا من المعارك في هذه الحرب!
القلب موجوع
لم يعد للعين قدرة على البكاء فقد جف دمعها، فما كان للقلب إلا أن يذرف عنها دماً، فارتقاء القادة واحد خلف الآخر يكون فيه الوجع كل مرة غائراً، وليس بآخره القائد البطل يحيى السنوار الذي خاض معارك كثيرة.
فقدت جندت حوله الأكاذيب حتى تفقد ثقة غزة بقيادتها وتزعزع الصف الداخلي للمقاومة وحاضنتها الشعبية.
تارة أشيع بأن السنوار خارج غزة، ومرات كثيرة أنها مختبئ بالأنفاق، وغيرها الكثير.
السنوار البطل ما كان إلا مقاوماً مغواراً بين صفوف جنده في ملابسه العسكرية يشتبك ويقاوم ببسالة، رغم مبايعة أبناء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) له بأن يكون رئيسها، فما كان جالساً على كرسي، إنما كان يخطط ويفاوض ويقاتل، وهو ذاته من كان يقاوم رغم جوعه، فقد كانت معدته خاوية من الطعام قبل 3 أيام من قبل استشهاده.
إلى الآن نتساءل كيف لجسده أن يتحمل كل هذا الوجع الذي أصاب يده ورأسه وجسده وما زال يقاوم بآخر نفس له؟
ارتقاء السنوار كشف حقيقته المقاومة ذات النضج الكبير المخطط لـ«طوفان الأقصى».
معركة «أُحد»
الحال التي وصلت لها غزة المكلومة جعل الكثير من أهل غزة في حيرة من أمرهم، ولا عجب في ذلك، فقد اجتمع عليهم القهر والظلم والخوف والجوع والفقد وارتقاء القيادة.
هذا الوجع أشعر غزة بوجع الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة من حوله في معركة «أُحد»؛ حيث أصيب عليه أفضل الصلاة والسلام بجروح عديدة فقد كسرت رباعيته، وشج وجهه، وجرحت شفتاه، وارتقى عدد من كبار الصحابة، وأوجع ذلك قلب النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة ذاتها بارتقاء عمه حمزة بن عبدالمطلب والتمثيل بجثمانه.
لكن هل هُزم الإسلام؟! هل توقفت الدعوة إلى الله تعالى؟ هل ترك المؤمنون إيمانهم ودينهم؟! بالتأكيد لم يحدث ذلك؛ إنما انتشر الإسلام في العالم وأصبح للمسلمين شأن عظيم وبقاء راية «لا إله إلا الله» عالية يجاهد اليوم أهل غزة في سبيلها، وتنتقل الراية من قائد إلى قائد ومن جيل إلى جيل.
صمود أسطوري
المقاومة التي بوصلتها الجهاد في سبيل الله تعالى من المحال أن تُهزم، وذلك وعد من الله عز وجل بشَّر به عباده في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد 8).
ورغم الوجع الغائر في قلب غزة، فإنه يقابله صبر وصمود أسطوري، والله عز وجل القادر على كل شيء، فهو لا يعجزه المشركون في معركة «أُحد»، ولن يعجزه المجرمون كذلك في «طوفان الأقصى»؛ فكل الذي حدث ويحدث هو لحكمة أرادها سبحانه وتعالى قد يكون من الصعب أن يدركها العقل البشري بمحدوديته؛ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 246).