المرجفون فئة تعيش في المجتمع وتعمل على زعزعة استقراره بنشر الفتن والانحلال والتحرر من الثوابت والقيم، ونشر أخبار السوء والأكاذيب ويذيعونها بين الناس في وقت الشدة؛ فتُحدث تأثيرًا نفسيًا سلبيًا، وينتشر من خلالها القلق والخوف والتوتر وروح اليأس والهزيمة والاستسلام، وقد وصفهم الله في القرآن الكريم بأنهم منافقون وفي قلوبهم مرض في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (الأحزاب: 60)، وقال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً {18} أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً {19} يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب).
مواقف المرجفين مع النبي
المنافقون المرجفون لا يخلو عصر منهم، وقد ابتلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا يبثون سمومهم في المجتمع يبتغون الفتنة؛ فكانوا يرجفون بأخبار السوء للوقيعة بين المؤمنين؛ لينشغلوا بأنفسهم، ولما أعياهم الطعن في الإسلام عمدوا إلى الطعن في زوج النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الإفك على نحو ما فضحهم الله في سورة «النور»، وأخذوا يرجفون الأكاذيب عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالغزو؛ فيقولون: هزموا وقتلوا وجرى عليهم؛ ليكسروا بذلك قلوب المؤمنين، وقد تناول القرآن الكريم مواقفهم، وكذلك كتب السيرة النبوية.
ولنأخذ نماذج من مواقفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة «بدر» استغل المنافقون غياب النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة؛ فأخذوا يرجفون بأخبار هزيمة المسلمين وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمين، فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه، وقال آخر لأبي لُبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون بعده، وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فأتيت أبي، فكذب قول المنافقين(1).
وفي غزوة «أحد»، رجع المنافقون بثلث الجيش، ولما حلّت الهزيمة بالمسلمين أظهروا الشماتة والفرح بما نزل بالمؤمنين؛ (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 120)، وفي موضع آخر يصف سبحانه ما انطوى عليه خبيث مكرهم: (يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران: 154)، وطلب سبحانه من المؤمنين عن ترديد كلام المنافقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران: 156).
واشتد حصار المشركين للمدينة في غزوة «الأحزاب»، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر من الخوف والفزع والقلق، فوجد المنافقون المرجفون ضالتهم لنشر الهزيمة النفسية بين المسلمين بقولهم: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا) (الأحزاب: 12).
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطمئن المؤمنين بأن الله ناصره، وأخذ يرفع معنوياتهم ويبشرهم بفتح بلاد كسرى وقيصر بقوله: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين»، فقال أحد المنافقين: محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى، وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط(2)!
وفي غزوة «تبوك» سنة 9هـ تخلفوا وأخذوا يقدمون أعذاراً كاذبة، وفضح الله سريرتهم؛ (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {42} عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة)؛ (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة: 50).
المرجفون في العصر الحاضر
يبث المرجفون اليوم سمومهم في المجتمع في المجالات المختلفة في أوقات السلم والحرب، ففي المجال الديني والاجتماعي يهدفون إلى الطعن في الثوابت الدينية بالفتاوى الشاذة التي لم يسمع بها الأولون التي تحدث لغطًا وتشويشًا، وإنكارهم الأمور الثابتة بالقرآن والسُّنة الصحيحة مثل الإسراء والمعراج، والطعن في علماء الأمة الثقات مثل البخاري وصحيحه، والدعوة إلى التحرر من الحجاب، ويعملون على تشويه العقيدة وبث الشك فيها على نحو ما نجد في دعوتهم لتوحيد الأديان السماوية تحت مسمى «الدين الإبراهيمي».
ويعمل المرجفون على تفكيك الأسرة بنشر العري والانحلال، وتعزيز تمرد المرأة على زوجها، وابتداع نماذج مخالفة للزواج الشرعي والترويج لها، وفي الاقتصاد ينشرون الأكاذيب حول ارتفاع الأسعار، وانهيار الاقتصاد، فيندفع الناس بالشراء والاحتكار وغير ذلك.
المرجفون والعدوان على غزة
وفي يومنا هذا الذي تتعرض فيه غزة لحملة إبادة بالقتل والهدم والتشريد، نجد هؤلاء المرجفين يسيرون على نحو ما كان عليه حال أسلافهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيتربصون بالمقاومة الدوائر على مواقع التواصل، وتخصصت كالات أنباء وفضائيات عربية لبث الرؤية الصهيونية في العالم العربي حتى أُطلق عليهم «المتصهينون العرب»، ففي كل حرب بين «إسرائيل» والمقاومة في فلسطين تجدهم يلقون اللوم على المقاومة ويبررون جرائم الاحتلال.
ويتكرر المشهد اليوم أثناء معركة «طوفان الأقصى»، وانضم إلى هؤلاء المرجفين طائفة أخرى أشد خطرًا يخرجون على الناس بلحاهم الطويلة، وقد بدت البغضاء من أفواههم؛ فيلقي أحدهم اللوم على المقاومة، ويتهكمون بهم من حين لآخر، ويبثون نعرات طائفية بحق من يدعمون ويساندون المقاومة، فلا هم ينصرون ولا يكفون ألسنتهم.
يعمل هؤلاء المرجفون على نشر أخبار كاذبة توحي بالقضاء على المقاومة، وتعظيم قوة العدو، واستحالة هزيمته، وأنه لا طاقة لهم بمحاربته، وتخذيل المقاومة بضعفهم والتشكيك في قدرتهم على المواجهة والصمود، ولا سبيل لإنهاء معاناة شعب غزة سوى الاستسلام وإلقاء السلاح لإنهاء الحرب ومداهنة الأعداء، وهؤلاء يروجون لفتنتهم تحت مظلة «الناصح الأمين»!
قد تبدو للوهلة الأولى أن تلك الفئة المرجفة تنطق الحق، وتخلص النصيحة، وأفكارها نتاج علم ودراسة تحليلية، لكن حقيقة أمرهم يخدمون العدو في ميدان آخر بنشر روح الهزيمة واليأس والقلق، وتثبيط عزيمة المقاومة عن مواصلة جهاد ضد عدو الله وعدوهم.
وقد ردت عقوبة المرجفين: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً {60} مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (الأحزاب).
________________________
(1) البلاذري: أنساب الأشراف، ج1، ص352.
(2) ابن كثير: السيرة النبوية، ج3 ص82.