كي نستطيع أن نتحدث عن مسألة الإصلاح والمصلحين، يجب أولاً أن نتخيل ماذا إذا خلت المجتمعات من المصلحين؟! ماذا إذا تخلى المصلحون عن رسالتهم وتركوا مجتمعاتهم بغير توجيه ونصح وتضحيات بالوقت والجهد والمال في سبيل تبليغ كلمة الله تعالى؟! كل فرد في المجتمع يفعل ما يحلو له تبعاً لهواه دون أن يعرف أو يعني أحد حرمة أو حِلّ ما يفعله، ودون أن يجد من ينصحه ويرده عن أخطائه؟! كيف تكون حال هذا المجتمع؟!
يجيب الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)، فالإصلاح هو الضمانة الوحيدة لحفظ أي مجتمع من الهلاك، أن تجد من يربي ولدك بحلقة مسجدية، ومن يصلح بين زوجين كاد أن ينهار بيتهما، وأن يصلح بين جارين اشتعلت بينهما نار الحقد والحسد والخلافات البسيطة، ومن يصلح بين فئتين مؤمنتين، ومن ينصح فتاة مسلمة بارتداء الحجاب..
الصلاح هو القيام بحق الله، وبحق عباده، هو العابد المتبتل في رحاب الله عز وجل، ومع ذلك إذا اقتصر المسلم على الصلاح في ذاته، وعليه أن يرتقي لأن يكون مصلحاً ليتم صلاحه، وتمام الصلاح بالإصلاح.
وكثير من الآيات القرآنية التي أمرت المسلمين بالإصلاح والتحذير من التوقف عنه حفاظاً على المجتمع من السقوط وفقدان هويته، وأشارت تلك الآيات الكريمة إلى العديد من الرسائل، فالإصلاح هو رسالة الأنبياء، قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142)، والإصلاح عكسه الإفساد، وسلوك المسلم معاكس لسلوك المفسد، يقول تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ {151} الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (الشعراء)، وأجر المصلح لا يضيع: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170)، ويأمر الله به عباده: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات).
وعن أمِّ كُلثومٍ بنتِ عُقبةَ، أنَّها سمعَت رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: «ليس الكذَّابُ الذي يُصلِحُ بَينَ النَّاسِ، فيَنْمي خَيرًا، أو يقولُ خيرًا» (رواه البخاري، ومسلم)، وعن أبي هُرَيرةَ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كُلُّ سُلامى مِن النَّاسِ عليه صَدقةٌ كُلَّ يومٍ تطلُعُ فيه الشَّمسُ قال: تعدِلُ بَينَ الاثنَينِ صَدقةٌ، وتُعينُ الرَّجلَ في دابَّتِه فتحمِلُه عليها، أو ترفَعُ له عليها متاعَه صَدقةٌ» (رواه البخاري، ومسلم)، وعن أبي الدَّرداءِ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألا أُخبِرُكم بأفضَلَ مِن دَرجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدقةِ؟»، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: «إصلاحُ ذاتِ البَينِ، وفسادُ ذاتِ البَينِ الحالِقةُ» (أخرجه أبو داود).
لماذا يجب أن يحرص المسلم على الإصلاح؟
1- إنه أمر رباني مباشر، وسبب من أسباب إرسال الرسل.
2- حماية للمجتمع من الشقاق والأمم من الهلاك.
3- أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتلك من أهم أسباب خيرية الأمة.
4- حماية المجتمع من الأمراض الأخلاقية والقلبية.
صور الإصلاح
– إصلاح يتعلق بالنفس: وهو أن يتعهد المسلم نفسه بالمحافظة على الطاعات والبعد عن كل ما يغضب الله عز وجل، وأيضاً تعهد النفس بسرعة التوبة والاعتراف بالذنب بين يدي الله تعالى، قال تعالى: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء: 16)، هنا ذكَر الله تعالى معَ التَّوبةِ الإصلاحَ، فقال: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا، والإصلاحُ هو إصلاحُ النَّفسِ، وصلاحُ العَملِ، وذلك دليلُ التَّوبةِ الصَّادِقةِ، وقد قرَن اللهُ تعالى التَّوبةَ دائِمًا بالعَملِ الصَّالِحِ، ممَّا يدُلُّ على أنَّ العَملَ دليلُ الإقلاعِ؛ لأنَّ النَّفسَ إذا انحرَفَت وأحاطت بها الخطيئةُ لا يكونُ الخُروجُ مِن دائِرتِها بالقولِ فقط، بل بالقولِ والنِّيَّةِ والعَملِ، وإنَّ اللهَ تعالى حينَئذٍ يقبَلُ التَّوبةَ(1).
– إصلاح يتعلق بالأهل: فالرجل في بيته مأمور بإنقاذ أهله من النار بإصلاحهم وحثهم على الطاعات ومتابعة عباداتهم بالصبر وليس مجرد إطعامهم، فيقول تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) (طه: 132)، ومن نماذج إصلاح الأقربين مؤمن آل فرعون، إذ يقول فيه الله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس: 20)، وفي تفسير الآية: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ إظهارٌ لعنايةِ هذا الدَّاعي، وشدَّةِ رغبتِه في الإصلاحِ، حيثُ لم يُثبِّطْه بُعدُ المسافةِ عن السَّعيِ إليه، والوفاءِ بحقِّه، وقولُه: يَسْعَى تذكِرةٌ لدُعاةِ الإصلاحِ، وإيقاظٌ لهِمَمِهم؛ كي يُنفِقوا في هذه الغايةِ وُسعَهم، ويُسارِعوا إلى النَّصيحةِ جُهدَهم؛ لأنَّ السَّعيَ في لسانِ العربِ بمعنى العَدْوِ والمَشيِ بسُرعةٍ(2).
– الإصلاح بين الأزواج المتخاصمين: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء: 35).
– الإصلاح بين المسلمين إذا تحاربوا: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، قال الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: الأمرُ بالإصلاحِ بَينَهما واجِبٌ قَبلَ الشُّروعِ في الاقتِتالِ، وذلك عندَ ظُهورِ بوادِرِه، وهو أَولى مِن انتِظارِ وُقوعِ الاقتِتالِ؛ ليُمكِنَ تدارُكُ الخَطبِ قَبلَ وُقوعِه(3).
– الإصلاح بين المؤمنين عامة وكافة بمقتضى أخوتهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
الوسائل المعينة
1- إدراك المسلم لأهمية الإصلاح ودوره في الحفاظ على الثوابت المجتمعية والقيم والأخلاق.
2- مدارسة الآيات القرآنية التي تحث على عملية الإصلاح وأنها مرتبطة برسالة المسلم في الحياة.
3- إدراك أن الإصلاح أمر رباني، وأمر نبوي للمسلمين.
4- ربط الإصلاح بخيرية الأمة وشرط وجودها.
5- معرفة المسلم أن التوقف عن الإصلاح مشاركة في إفساد المجتمع وإن كان صاحبه صالحاً في ذاته.
6- التماس أجر المصلح في الدنيا والآخرة.
7- معرفة أن المصلح مشارك في الحفاظ على الأمة من الهلاك.
8- التماس الدرجات العظمى لقيامه بالسعي في الإصلاح بين متخاصمين.
__________________________
(1) زهرة التفاسير لمحمد أبي زهرة (3/ 1612).
(2) الدعوة إلى الإصلاح لمحمد الخضر حسين، ص17.
(3) تفسير ابن عاشور (26/ 199).