تتردد عبارة شائعة مفادها أن أكثر من نصف الوظائف التي سيقوم بها أطفالنا اليوم لم تُخترع بعد! وهو ما يعني أننا بحاجة إلى أجيال مجهزة بالمهارات اللازمة لمواجهة مستقبل غير مؤكد، وهذا هو دور التعليم، الذي لا يقتصر على نقل المعرفة، بل بناء عقول قادرة على التكيف والابتكار.
في معظم دولنا العربية، لا تزال الأنظمة التعليمية تسهم في تثبيط عقول الشباب، وتحصرها في دوائر ضيقة، تمنعها من الانطلاق إلى فضاء التفكير والإبداع؛ باعتمادها على «مثلث التدمير»؛ ضلعه الأول يتمثل في «الحفظ والتلقين»، مع إغفال تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي، والثاني يتبدى في تكريس ثقافة «العقول الناقلة» بدلاً من العقول المبدعة والمبتكرة، فيفرخ أفراداً يفتقرون إلى القدرة على النقد، ويعيشون في طي ثقافة الاتباع، أما الضلع الثالث فهو فشل هذه الأنظمة في مواكبة التحولات الكبرى مثل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؛ ما يعوق استعداد الشباب لسوق العمل المستقبلية.
تطوير عقول شبابنا يتطلب فلسفة تعليمية جديدة تركز على تنمية التفكير النقدي والإبداعي
ونتيجة لهذا التردي، أصبحت مدارسنا وجامعاتنا تنتج عقولاً جامدة وقدرات محدودة، فتضاءل دور التعليم في تشكيل عقول الشباب، وبناء مهارات التفكير النقدي والإبداعي لديهم، وأصبح من الضروري إعادة تصور التعليم ليتواكب مع متطلبات العصر، ويعزز تنمية العقل البشري بشكل شامل ومستدام.
إن تطوير عقول شبابنا العربي يتطلب فلسفة تعليمية جديدة تركز على تنمية التفكير النقدي والإبداعي، من خلال تعزيز المنهج العلمي والتفكير التحليلي، فضلاً عن مواءمة السياسات التعليمية مع التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وربطها بسوق العمل الإقليمية والعالمية.
الأهمية والتحديات
العلم لا يقتصر على كونه معرفة تنقل وتتوارث، بل هو في حقيقته تنمية شاملة لكل المهارات اللازمة للحياة، وبه يكتسب الفرد القدرة على التفكير خارج الصندوق وإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات، ويستطيع التعاون والعمل الجماعي، ومن خلاله يسمو عقله وتنمو مهارات التواصل والتفاوض، فليس العلم وسيلة للحصول على شهادات، بل هو استثمار في المستقبل، وصنع عقول قادرة على بناء مجتمعات متطورة.
وللتعليم دور حيوي في صقل شخصية الفرد وتنمية وعيه الذاتي والمجتمعي، فهو يزوده بالمعارف والمهارات اللازمة لفهم ذاته وقدراته، وبناء ثقته بنفسه، واتخاذ قرارات مستنيرة، كما يساهم في ترسيخ قيم المواطنة الصالحة والتسامح والتعاون، ويعزز الوعي بالقضايا المجتمعية؛ ما يؤهل الأفراد للمساهمة الفاعلة في بناء مجتمعات أكثر ازدهاراً.
ويواجه الشباب في معظم دولنا العربية تحديات عديدة تعرقل حصولهم على تعليم نوعي، ومن أبرز هذه التحديات ما يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
– الفجوات الرقمية: وهي تشكل حاجزاً كبيراً أمام التعليم النوعي، فعندما يفتقر ملايين الشباب إلى الوصول إلى خدمات الإنترنت الجيدة، أو يمتلكون أجهزة متخلفة وضعيفة الجودة، فلا شك أن ذلك يعيق قدرتهم على التعلم عبر التقنيات الحديثة اللازمة للتعليم المتطور، علاوة على معاناة أكثرهم من نقص في المهارات الرقمية الضرورية للتفاعل مع أنظمة التعليم الجديدة.
أبرز تحديات التعليم في بلادنا: الفجوات الرقمية.. ضعف المناهج الدراسية.. نقص الموارد
– ضعف المناهج الدراسية: وهي واحدة من أبرز الإشكاليات التي لم تتغلب عليها معظم الدول العربية، فأغلب المناهج الدراسية تعاني الجمود وتسير في درب يتخلف عن مواكبة تطورات العصر، فتركز على التلقين بدلاً من التفكير النقدي والإبداع، ويغيب عنها التحديث الدوري؛ ما يجعلها مناهج فقيرة وبعيدة عن تلبية متطلبات سوق العمل، وهي بذلك تضعف من جاهزية الشباب لصناعة المستقبل، أو حتى مواجهته.
– نقص الموارد: في كثير من الدول النامية، يتسبب نقص الموارد في ضعف جودة التعليم، بدءاً من قلة المعلمين المؤهلين، وصولاً إلى تدهور البنية التحتية للمدارس ونقص المواد التعليمية الأساسية؛ ما يترك أثراً سلبياً على العملية التعليمية ككل؛ ما يؤدي إلى تخريج أجيال تفتقر إلى القدرة على الإسهام في أي إنتاج يضيف إلى تاريخ البشرية.
تحفيز عقول الشباب
وفي ظل التحديات الجسام التي تواجه عالمنا العربي، يبرز تطوير عقول الشباب كأولوية قصوى لبناء مستقبل واعد، فالشباب هم عماد الأمة، وهم القادرون على ابتكار الحلول لمشكلات العصر، ولتحقيق ذلك، ينصح الخبراء بتهيئة بيئة تحفز العقول الشابة وتنمي قدراتها الإبداعية، من خلال مجموعة من الإستراتيجيات، من بينها:
– تعريض العقل باستمرار لأفكار وتجارب جديدة، وهو بمثابة تمرين ذهني يعزز قدراته؛ فالقراءة، مثلاً، تفتح آفاقاً واسعة وتنمي التفكير النقدي، كذلك، يساهم الاستماع إلى آراء مختلفة والمشاركة في حوارات فكرية في توسيع مداركنا وزيادة مرونتنا العقلية، ومواجهة تجارب جديدة باستمرار تساهم في تعزيز مرونة العقل، وتجعله أكثر قدرة على التعلم والتكيف.
– ممارسة الرياضة، فهي ليست مجرد نشاط بدني، بل هي استثمار في صحة الدماغ والعقل، حيث تشير الدراسات إلى أن ممارستها تحسن وظائف الدماغ بشكل ملحوظ، فهي تعزز الدورة الدموية وتزيد من تدفق الأكسجين إلى الدماغ؛ ما يعزز قدرته على التفكير والتحليل.
– كسر الروتين اليومي وتجربة طرق جديدة في الحياة، وهو بمثابة منشط قوي للعقل، فعندما نغير مسارنا اليومي أو نجرب أنشطة جديدة، فإننا ندفع أدمغتنا للعمل بطرق مختلفة، وهذا التغيير يجبرنا على التفكير بشكل إبداعي والتكيف مع المواقف غير المتوقعة، ويعزز من مرونتنا العقلية وقدرتنا على حل المشكلات.
نحن في حاجة ماسة إلى جيل من الشباب يتمتع بمرونة فكرية وقدرة على التعلم والتطور المستمر
ويشهد عصرنا حاجة ماسة إلى جيل من الشباب يتمتع بمرونة فكرية وقدرة على التعلم والتطور المستمر، وهنا تأتي أهمية «عقلية النمو» التي تؤمن بأن القدرات والمواهب ليست ثابتة، بل قابلة للتطوير من خلال الجهد والمثابرة.
ووفقاً لأساتذة علم النفس، يعتقد أصحاب العقلية الثابتة أن قدراتهم محدودة ولا تتغير، بينما يرى أصحاب العقلية النمو أنهم قادرون على تطوير أنفسهم باستمرار من خلال الجهد والمثابرة، هذا الاختلاف في الاعتقاد يؤثر بشكل كبير على دافعيتهم وثقتهم بأنفسهم.
ويؤكد خبراء علم النفس أنه عندما يمتلك الشباب عقلية النمو، فإنهم يرون الفشل كفرصة للتعلم والتطور؛ ما يعزز ثقتهم بأنفسهم ويدفعهم إلى بذل المزيد من الجهد، فهم يدركون أن النجاح يتطلب المثابرة والعمل الجاد، وليس مجرد موهبة فطرية.
إن تبني عقلية النمو يسهم، وفقاً لخبراء علم النفس، في غرس روح المبادرة والابتكار لدى الشباب، فالمرونة الفكرية التي تميز هذا النوع من العقلية تدفعهم إلى التفكير خارج الصندوق، والبحث عن حلول غير تقليدية للتحديات التي تواجههم، وبهذا يتحول الشباب إلى قوة دافعة للإبداع في مختلف القطاعات، بدءاً من ريادة الأعمال، مروراً بالتكنولوجيا، وصولاً إلى المجالات الثقافية والاجتماعية.
____________________
1- «أثر استخدام عقلية النمو على الدافعية للتعلم والتفكير الإنتاجي»، التربية (الأزهر): مجلة علمية محكمة للبحوث التربوية والنفسية والاجتماعية، 42.199 (2023)، 1-30.
2- «تحديات التعليم الرقمي في الوطن العربي (رؤية تأصيلية)»، المجلة العربية للتربية النوعية 4.12 (2020)، 91-108.
3- تقرير: «يحتاج الدماغ للتدريب لينمو.. إليك طرق تحسين أداء العقل»، موقع الجزيرة.