كثير من الآباء والأمهات في بلادنا يتساءلون عن سبب انجراف أبنائهم وبناتهم إلى مستنقعات فكرية قد تصل إلى حد الإلحاد، رغم أن بيئة تنشئتهم كانت صالحة وإيمانية، والواقع أن الهداية «مُركب عقلي نفسي»، يتناول الإيمان فيه جانب تزكية النفس، بينما يقود العقل فيه عملية التفكير وقدرتها على الوصول إلى الحق.
ولما كان التعليم يعاني حالة بائسة في أغلب بلادنا العربية والإسلامية، تبدو أزمة العقل الناقد في مدارسنا بارزة بقوة، إذ اعتاد أبناؤنا التلقين في التعلم بالأساس، بينما يتمثل التفكير النقدي في تحليل وتقييم المعلومات بشكل منهجي من أجل التوصل إلى فهم عميق ومستقل، بحسب تعريف «مؤسسة التفكير النقدي» (Foundation for Critical Thinking) في كاليفورنيا.
ويعتمد التفكير النقدي على 3 معايير أساسية، هي: التحقق من صحة المعلومات، وتحليل الأدلة، وفهم العلاقات المنطقية بين الأفكار، ويعتبر ذا أهمية رئيسة في اتخاذ قرارات أكثر حكمة وتقييم الأفكار الجديدة بموضوعية، ويعد مهارة أساسية في حل المشكلات واتخاذ القرارات في مختلف مجالات الحياة العلمية والمهنية.
التفكير النقدي في الإسلام يوجِّه الناس إلى اتباع الحق والابتعاد عن التقليد المؤدي إلى الضلال
وقد يتصور بعضنا أن التفكير النقدي بضاعة غربية بدعوى أننا أمة «الحفاظ»، وهذا محض خلل في فهم الدين والدنيا معاً، ففي ضوء القرآن والسُّنة لا يمثل التفكير النقدي وسيلة للتوصل إلى حكم صائب فقط، بل هو أيضاً وسيلة لتحقيق فهم أعمق للدين نفسه، فالنصوص الشرعية تؤكد أهمية التأمل والتفكر كسبيل للارتقاء الروحي والعقلي؛ ما يعزز القدرة على اتخاذ قرارات مبنية على وعي كامل ودراية، وعلى رأسها قرار الإيمان.
وهنا يساعد التفكير المتجاوز للسطح صاحبه على تفسير النصوص القرآنية والحديثية بشكل سليم بعيداً عن الانحرافات أو التفسير السطحي، وهو عين ما وجه إليه القرآن عموم المؤمنين، على نحو ما ورد في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24).
وفي تطبيق هذا المنهج القرآني تحرر من التقليد الأعمى، فالتفكير النقدي في ميزان الإسلام يوجه الناس إلى اتباع الحق والابتعاد عن التقليد الذي قد يؤدي إلى الضلال، بل إن القرآن أورد ذماً صريحاً لهؤلاء الذين يتبعون الباطل بدافع الانقياد على نحو ما ورد في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170).
هذا في الدين، فماذا عن الدنيا؟ يعلمنا القرآن أن الإسلام لا يعارض التفكير في الكون والظواهر الطبيعية، بل يشجع على التفكير في عجائب خلق الله، بما يفضي إلى زيادة الإيمان، على نحو ما ورد في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53).
التدريب على مهارات التحليل يعد أساسياً لتطوير قدرة أبنائنا على التفكير النقدي بفعالية
وفي التطبيق النبوي نجد مفهوم «التفكير النقدي» مرتبطاً بشكل وثيق بما ورد في الحديث الذي يحذّر من اتباع كل ناعق، وهو حديث عن الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (رواه الترمذي).
وقد أثبتت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018م أن التفكير النقدي يتطلب القدرة على تحديد نقاط الضعف في الحجج وتحليل الأدلة بعمق، إضافة إلى الانفتاح على تغيير الآراء عند وجود مبررات قوية، وهو عين ما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام قبل أكثر من 1400 عام، وتجلى واضحاً في واقعة صلح الحديبية؛ حيث قام النبي عليه الصلاة والسلام بتوقيع اتفاقية مع قريش، بدت غير عادلة من وجهة نظر عديد الصحابة، وكانت بنود الاتفاق تبدو في ظاهرها لصالح قريش، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح للصحابة بأن الاتفاق يخدم مصلحة الإسلام على المدى البعيد، وقد تبينت حكمة ذلك لاحقاً.
مهارات التحليل
لذا، فإن التدريب على مهارات التحليل يعد أساسياً لتطوير قدرة أبنائنا على التفكير النقدي بفعالية، وهو ما أشارت إليه دراسة لمؤسسة «Reboot Foundation» عام 2022م، مفادها أن تعليم الطلاب كيفية استخدام أساليب منطقية وتعزيز مهارات التفكير التحليلي يعزز من قدرتهم على حل المشكلات.
وعليه، فإن إدراج أنشطة مثل المناقشات الجماعية ضروري لإتاحة تحليل وجهات نظر متعارضة وفحصها بشكل نقدي أمام الطلاب؛ بما يحفزهم على طرح أسئلة تتعلق بالدليل والمنطق ويشجع على التحقق من صحة المعلومات من زوايا متعددة.
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على التفكير التحليلي حتى في شأن الدين، ومنه مثال حواره، صلى الله عليه وسلم، مع معاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن، فقال له: «بم تحكم؟»، فأجابه معاذ: بكتاب الله، ثم بسُنة الرسول، وإن لم أجد فبالاجتهاد، فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على أهمية التفكير والاجتهاد.
التحدي الأبرز أمام تحصين عقول أبنائنا تعزيز التفكير النقدي وتطبيق مهاراته على مناهج التدريس
وفي عصرنا الحالي، يمكن إدراج أنشطة رقمية، مثل البحث عبر الإنترنت والتحقق من المصادر، أو حتى تحليل محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، كجزء من مناهج تعليم الطلاب لكيفية التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وذلك في إطار منهجية شاملة لتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب، وهو ما يمثل أيضاً منهجاً نبوياً.
فرغم عدم وجود التكنولوجيا الرقمية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هناك مواقف عديدة أظهرت تشجيعه لاستخدام أحدث الوسائل التعليمية المتاحة آنذاك، ومنها استخدام أسلوب التمثيل والتوضيح المادي، مثل رسم خطوط على الأرض لتقديم شرح مرئي لبعض المفاهيم المعنوية مثل طريق الحق وطريق الباطل، التي تعد أمثلة على التفكير الإبداعي في التعليم؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً»، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153).
إن التحدي الأبرز أمام تحصين عقول أبنائنا وبناتنا لا يقتصر على تزكية نفوسهم وزيادة الإيمان فيها، بل تتوازى معه ضرورة تعزيز التفكير النقدي وتطبيق مهاراته على مناهج التدريس، وكلاهما كفيل بتحقيق التحصين المنشود ضد تزيين الشيطان لأفكار الزيغ والضلال.