قاعدة قرآنية تربوية عالية، عبقرية لا مثيل لها في رفع الهمّة وتجاوز الهزيمة النفسية، أرساها القرآن وثبتها في ضمائر ومشاعر الرجال الذين بنى الرسول صلى الله عليه وسلم على أكتافهم بنيان الإسلام، الرجال الذين غيروا التاريخ وبدلوا أوضاع الكوكب الأرضيّ في أقلّ من ربع قرن من الزمان.
إنّها القاعدة الذهبية في التعامل مع المعرضين في أزمان ضعف الإسلام وقوة وظهور الطغاة من الأنام، قاعدة «الصفح الجميل».
وهي لا تعني ما يبدو للظاهري المتعجل لأول وهلة، لا تعني الصفح الذي يقدمه الضعيف للقويّ ذلًّا وانحناءً، لا تعني ذلك الصفح الذي يُسْدِيه أو يُزْجِيه من لا يملك غير ذلك، وإنّما تعني الصفح الذي يترفع به الكبير عن تفاهات الصغير، ويستعلي به أهل الإيمان على دنيا أهل الكفر والطغيان، بما يترتب على ذلك من السلامة من أمراض التبعيّة، كالتعلق بالوعود والانهزام أمام المخاوف والرعود.
ومن هنا سُمِّيَ «الصفح الجميل»، قال الله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَاّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85)، والصفحُ أصلُه إبداء صفحة العنق، وهو سلوك إذا كان معه إعراضٌ عن السفهاء وإقبالٌ على الأتقياء؛ فلن يكون إلّا استعلاءً بالإيمان على قوى الطغيان؛ لذلك جاء بعد الآية الآنفة الذكر: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ {87} لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ {88} وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (الحجر)؛ أي: بما أنّنا أعطيناك السبع المثاني والقرآن العظيم، وحبيناك المنهج الربّانيّ الحكيم، وجعلناك بهذا إماماً يُقتدى وقدوة تُحتَذَى؛ فلا تَهِنْ ولا تسمح لهمتُك أن تَسْقُطْ، فيتبدل -عندئذ- حالُك الطبيعيّ كمؤمن صاحب رسالة سامية، وتتعلق بأولئك الذين متّعهم الله في الدنيا بشيء من عَرَضِها الزائل، ثم تُعرِض في المقابل عن المؤمنين وتستعلي عليهم، بل أعرِضْ عن الكافرين، ولا تمدّ بصرك إليهم إعجابًا وانبهارًا وهزيمة وانسحاقًا، ولا تأْس عليهم فليسوا بشيء، واخفض جناحك للمؤمنين.
ولقد تكرّر في القرآن الكريم التأكيد على هذه القاعدة الذهبية (الصفح الجميل) بمعناه الذي وضّحناه آنفًا، فليس لمن يحمل همّ رسالة عالمية أنْ ينهزم نفسيًّا أمام جعجعة الجاهلية وانتفاشها، ولا أن ينكسر نفسيًّا وهو يرى رموزها يتقلبون في البلاد في كبر ورياء وغطرسة وادعاء؛ فكل هذا زيف لا قيمة لها، قال تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ {196} مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران)، (مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (غافر: 4).
بل إنّه على الرغم من حرص الدعوة على هداية الخلق إلى الحقّ؛ فإنّ الحرص على هداية الكبراء قد ينقلب إلى تهافت يجلب الذل والهوان؛ مما يضعف الهمّة ويحني القامة ويشتت القلب، من هنا نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن التعلق الشديد بأمل اهتدائهم للحقّ، فقال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {3} إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (الشعراء)، (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)؛ ومعنى باخع نفسك أي: تكاد تقتل نفسك لأجل هدايتهم، فهذا لم يرضه الله له برغم كونه حرصًا على هدايتهم.
وعندما اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الكبراء طمعًا في إسلامهم؛ مما أدّى إلى انشغاله عن أحد المؤمنين الضعفاء؛ عاتبه الوحي بهذه الطريقة: (عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى {4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى {5} فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى {6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {7} وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى {10} كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) (عبس).
وعندما مال تفكيره لقبول طلب الكبراء أن يجعل لهم يومًا وللضعفاء يومًا ليوافقوا على الجلوس معه والسماع منه؛ نزلت الآيات بهذه اللهجة الصارمة: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً {28} وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف).
إنّ مِن أخطر ما يواجهه العمل الإسلاميّ اليوم هذه الهزيمة النفسيّة التي تغمر قلوب المسلمين انبهارًا بما عليه المشركون والكفار، هذا هو الغرور الذي نُهينا عنه في صريح القرآن، فلماذا هذا الذي نراه من تهافت المسلمين وصعودِ قلوبهم وهبوطِها مع كل حدث تَبْرُق به الأخبار عن أمريكا والغرب؟ صحيحٌ أنّ متابعة أخبارهم ورفع واقعهم يسهم في معرفة سبيلهم، وهو مقصد شرعيّ بلا ريب، قال تعالى: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 55)، لكنّ الاستغراق في المتابعة بنوع من الإكبار والانبهار يجعل القلوب تتعلق بالكفار، وتعلق مصائر المسلمين بمصائرهم، وهذا سلوك نفسيٌّ مفسدٌ للقلوب، مُمْرضٌ للنفوس، مُسٍقِطٌ للهِمَم جالبٌ للهموم، صارفٌ عن العمل الجادِّ وعن الأخذ بالأسباب الصحيحة، وعن الاعتماد على النفس والتوكل على الله ربّ العالمين.
إنّ الرجاءَ في العدو ليس طريقًا لتحقيق الآمال، ولا يُعَوَّلُ عليه في جلب نفع أو دفع ضرّ، وكذلك الخوف منه، وإنّ عدونا لن يغير هويته بتغيّر الجالسين على الكراسيّ؛ فما هم إلا صورًا متغيرةً لعدو واحد لا يتغيّر، فلا فرق بين جمهوريّ وديمقراطيّ، لا فرق بينهم في العداوة للإسلام والمسلمين، وفي السعي لإفقار المسلمين وإذلالهم وابتزاز ثرواتهم ومحو ثقافتهم وطمس هويتهم وإفساد دينهم ودنياهم، تتغير الأساليب ولا يتغير المقصد، تتنوع الخطط ولا تتبدل الغاية، وعليه فينبغي أن نَتَّئِدَ ونتريث؛ فلا نعلق بأحد جاء في الحكم آمالًا عراضًا لمجرد أنّ سلفه كان سيّئًا، وكذلك لا نستيأس إذا كان الآيب أقسى من الذاهب.
إنّما الذي يجب أن نعول عليه دومًا -بعد توكلنا على الله واعتمادنا عليه واستمدادنا العون والنصر منه باللجأ والدعاء- أمران اثنان لا ثالث لهما: نحن وما أعددناه، فمن نحن؟ وما وصف حالنا مع الله ومع قضيتنا ومع أنفسنا؟ وما الذي أعددناه لخوض النزال وتحقيق الآمال؟ هل نحن مسلمون صدقًا؟ وما قدر تعلقنا بالله وتوكلنا عليه وثقتنا به وبدينه وشرعه؟ وكيف حالنا مع المسلمين؟ كيف الأخوة والوحدة؟ كيف الولاء للمؤمنين والعداء مع الكافرين؟ وأين ما أعددناه من قوة بكل صنوفها، أين النواة الصلبة من علماء الإمة وكبارها الذين يحملون الراية ويندفعون بها أمام الجيل نحو الفتح في كل الميادين؟ وأين القاعدة الصلبة من طليعة الأمة الذين يعول عليهم في حمل همّ الدين وفي السعي للتمكين له، وهل لدينا مشروعٌ للأمة جامع وواضح، ثم ما حال الخطاب الدعوي والسياسي والشرعيّ والتربويّ، أهو خطاب يتسق مع كل محاور وركائز العمل الإسلاميّ؟ مع النخب العلمية والسياسية والحركية، ومع الطليعة الشبابية بتنوعها وتشعبها، ومع الحاضنة الشعبية بمكوناتها كافّة، ومع شرائح المجتمع القاصية والدانية.
إنّنا أمّة تمتلك مشروعًا حضاريًّا كامنًا في كتابها ينتظر من يكتشفه ويخرجه للناس، وتمتلك كتابًا لا يغسله الماء ولا يخلق لكثرة الردّ، لم يزل غضًّا كما أنزل كأنّه يتنزل اليوم، فيه الحلول العملية لكل مشكلات الحياة الإنسانية، وفيه قبل ذلك المنهاج السليم القويم الذي يخطّ للناس منهج الحياة وطريق النجاة، وهو إلى جانب ذلك طاقة دافعة، وقوة محركة، ودستور بلغ النهاية وأوفى على الغاية في الإحكام والإبرام.
إنّنا أمّة صاحبة رسالة عالمية، وعليها مسؤولية كبيرة تجاه البشرية، ولأجل هذه المسؤولية، ولأجل العبء الكبير الذي تلقيه المسؤولية؛ جعلها الله أمّة عدلًا وسطًا معها الميزان الذي لا يميد ولا يحيد: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
فلْنَنْتَهِ عن التعلّق بأهداب أقوام إنّما هم حطب جهنم، ولنتخلص من عقدة الانبهار بما عليه المشركون والكفار، ولننظر لما وهبنا الله تعالى من قوى حقيقية، ولننهض ونثب الوثبة التي تنتظرها الإنسانية المنسحقة تحت طاحونة الرأسمالية الطاغية والإمبريالية الباغية.
وها هي الدنيا تتهيّأ لهذه الوثبة الميمونة، لكنّنا لانشغالنا بنتائج الانتخابات التي صارت عند أصحابها ألعوبة تديرها الأوليجارشيات البغيضة؛ ذَهَلْنا عمّا يجري في الدنيا من تغيرات كبرى سوف تؤهل الأرض لاستقبال العودة الميمونة للحضارة الإسلامية، فهيّا أيها المسلمون إلى واجباتنا، شمروا عن سواعد الجدّ، وانطلقوا داعين للإسلام ومربين للأجيال، ومجاهدين للعدوان، ومعارضين للاستبداد والطغيان، وآخذين بكل أسباب القوة من علم وعمل وسعي ووحدة، واعلموا أنّ الله لن يخذل جيلًا سعى بجد وإخلاص لإعلاء كلمة الله، والله غالب على أمره.