بين عالمين متباينين أشد التباين، في المنظومة الأخلاقية والقيمية والاجتماعية، يبقى التعليم عملية ضرورية مصيرية يتحدد على أساسها مستقبل البلاد، وتتبوأ المجتمعات موقعها من الأمم الأخرى، وبحسب مدى تطور العملية التعليمة نجد دولاً تتقدم وأخرى تتخلف.
لكن العجيب أن ما يتميز به الغرب اليوم في طريقة التعليم والتدريس كان العالم الإسلامي به أسبق، وضرب لنا أروع الأمثلة قديماً في نجاح منظومته التعليمية، وبينما ترك العرب ما كان عليه أجدادهم وانجرفوا وراء التقليد؛ طوَّر الغرب من منظومته ونهض بها، فظهر الفارق بين أمة تسعى إلى جوهر العلم وحقيقته، وأمة اكتفت بشكل العلم ورسمه.
فما أبرز الاختلافات بين العملية التعليمية في العالم العربي والغربي؟ وكيف كان التعليم أحد أهم أسباب تقدم الغرب؟ وكيف يجد أبناء الأمة العربية من الدارسين بالخارج التعليم الغربي؟ هذا وأكثر تتناوله «المجتمع» في هذا التقرير.
الأمة التي تريد النهوض ودحض خلافاتها وتخلفها يجب أن تضع العملية التعليمية على رأس اهتماماتها
ليس عجيباً أن تكون أول آيات القرآن هي أمر بالقراءة والتعلم، فالعلم هو الذي يبني الإنسان ويُكسبه قيمة ومكانة، حتى إن الله عز وجل عندما خلق سيدنا آدم علمه ما لم يعلّم الملائكة، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (البقرة: 31)، ليكون ذلك العلم درعاً أمام الفساد في الأرض وسفك الدماء.
فالأمة التي تريد أن تنهض وتدحض خلافاتها وتخلفها يجب أن تضع التعليم على رأس اهتماماتها، وليس مجرد التعليم كخدمة وطنية، بل التركيز على العملية التعليمية بحد ذاتها، ومدى استفادة الطالب منها، ومدى تطورها وتناسقها مع احتياجات سوق العمل، وإلا ستكون هذه العملية أشبه بحمل ثقيل لا فائدة فيه.
فقديماً اعتمد نظام الدولة في المنطقة العربية والإسلامية على نظام الوقف، حيث كانت الاحتياجات الأساسية للمواطنين مثل الصحة والتعليم وغيرها، بعيدة عن مركزية الدولة؛ لذلك كثيراً ما كنا نجد أن انهيار النظام السياسي في دولة ما لا يعني بالضرورة انهيار الحضارة وما يتبعه من انهيار للتعليم والصحة.
فعلى سبيل المثال، حين بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها في القرنين الـ16 والـ17، كان النظام التعليمي وقتها معتمداً على عدة أنواع من المدارس، أولها: المدارس الدينية التي أُنشئت في المساجد أو ملحقاتها ثم انتقلت بعد ذلك لمبانٍ مستقلة، وكان الهدف منها تخريج عاملين في المؤسسات القضائية والدينية كالقضاة والمدرسين والمفتين، وكان المستوى التعليمي في هذه المدارس عالياً جداً، وكان يتم تدريس العديد من المواد غير العلوم الدينية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك والهندسة والتاريخ.
ثاني أنواع المدارس هي مدارس السراي، التي أُنشئت لتعليم أولاد العائلة العثمانية، وإعداد موظفين للعمل في السراي.
المنهجية التعليمية في الغرب تعتمد على التفكير النقدي والابتكار بينما في بلادنا التركيز على الحفظ والتكرار
أما المدارس العسكرية فكانت لإعداد ضباط عسكريين وموظفين لدوائر الدولة، وهناك المدارس الأهلية ومنها مدارس الصبيان، بالإضافة إلى ما عُرف بمدرسة إسطنبول الكبرى؛ التي أنشأها السلطان محمد الفاتح كأول جامعة، وكانت تدرس 4 علوم أساسية؛ الدينية والأدبية والرياضية والطبيعية.
ولم يدخل التعليم الحديث إلى الدولة العثمانية إلا عام 1839م؛ حيث تغيرت هيئة التعليم للهيئة الغربية آنذاك.
وكان للغرب نظام تعليمي مختلف منبثق من الثقافة الفكرية والثورة التنويرية، التي نشأت خلال فترة الثورة الصناعية في القرنين الـ18 والـ19، حيث نشأ احتياج اقتصادي لوجود أفراد متعلمين بشكل معين لسد الحاجة للوظائف والموظفين، ومع ازدياد الإنتاج وُجدت السلع التي يجب أن يتم تصريفها، وهذا التصريف لن يتم إلا عبر أفراد يعملون بشكل مستمر للحصول على الأكل والشراب والرفاهيات التي تُنتج بشكل مستمر؛ أي أن الأمر أشبه بدائرة مغلقة.
وتم تأسيس النظام التعليمي بحيث يعطي جميع الطلبة المادة نفسها في السن نفسها من أجل استمرار عملية توليد الموظفين والقائمين على العملية الاقتصادية، ومع مرور الوقت وتغير الزمن بدأت تظهر آثار خطيرة على المجتمعات وحرية الأفراد بسبب هذا النظام.
وقد تطورت حالياً العملية التعليمية في الغرب، ولكن بالمقابل لم يتم هذا التطوير في الدول العربية، حيث استمر النظام كما هو كعملية مغلقة في إنتاج نصف متعلمين، مع تنحية التعليم الديني والتعليم الثقافي العربي والتعليم الأخلاقي، والاعتماد أغلب الوقت على مناهج ثقافية ومناهج أجنبية، ويمكننا رؤية ذلك في اهتزاز الهوية الثقافية لدى الأطفال.
رغم التقدم العلمي عند الغرب الذي ساهم في الازدهار يبقى الجانب القيمي والأخلاقي على هامش العملية التعليمية
فالتعليم في الدولة العثمانية، كمثال، راعى خصوصيات الدارسين، وكانت طريقة التدريس تعتمد على الطالب نفسه وقدرته على الاستذكار والبحث والمطالعة، فكان الناتج مختلفاً عن المدارس العامة الحالية، وكان التعليم بشكل عام خارج سيطرة الدولة، بل كثيراً ما انطلقت الثورات والمعارضات من قلب المدارس الدينية، وقد أنتج هذا النمط من التعليم نوعاً من أنواع الموازنة بين سلطة الدولة وسلطة الشعب، وتوفير قدر أكبر نسبياً من الحرية الفردية.
بمَ يتميز الغرب؟
تكمن أبرز الاختلافات بين العالم العربي والغربي أن المنهجية التعليمية حالياً في الغرب تعتمد على التفكير النقدي والابتكار، حيث يشجع الطلاب على التحلي بالفضول واستكشاف المعرفة بشكل مستقل، بينما في عالمنا العربي يكون التركيز أحياناً على الحفظ والتكرار، ويميل النظام التعليمي إلى الروتينية أكثر من تنمية المهارات والابتكار.
كما يُلاحظ في الغرب استخدام التكنولوجيا بشكل واسع في عملية التعليم، الحوسبة السحابية والتعلم الإلكتروني والتطبيقات التعليمية المبتكرة، بينما في العالم العربي قد تكون هناك تحديات في تبني التكنولوجيا في التعليم بشكل كامل نظراً لاختلافات في البنية التحتية ومتطلبات التكنولوجيا الحديثة.
وتعتمد الهياكل التعليمية في الغرب على حرية اختيار المسارات التعليمية والتخصصات، مما يسمح بمرونة وتنوع في مجالات الدراسة، بينما في العالم العربي قد يكون هناك قيود على اختيار المسارات التعليمية وتتمثل في تفضيل بعض التخصصات على أخرى.
كما تشجع الثقافة التعليمية في الغرب على التعلم من الأخطاء والتجارب، وتقدير الابتكار والفشل كجزء ضروري من عملية التعلم، بينما في العالم العربي قد تكون هناك توجهات تقييمية تفضل النجاح الفوري والتركيز على النتائج الاختبارية أكثر من التركيز على العمل الإبداعي.
ونجد الاهتمام في التعليم الغربي يكون بمخرجات العملية التعليمية ومدى تناسقها مع سوق العمل واحتياجاته ومع متطلبات النهوض بالبلاد، أما في أغلب الدول العربية يكون التقييم من خلال الأداء فقط وسير العملية التعليمية بشكل جيد؛ مثل حضور المعلمين وشرح الدروس وهكذا، بغض النظر عن المُخرج النهائي ومتطلبات المهن واحتياجات الوطن.
أبناؤنا بين عالمين
وقد تحدثت «المجتمع» مع عدد من الطلبة العرب الذين أكملوا دراستهم الجامعية أو الدراسات العليا في أوروبا، فكانت أغلب الاختلافات التي وجدوها بين التعليم في بلادهم العربية وفي الدول الغربية يتلخص في:
1- الحرية في اختيار مجال التخصص، حتى من قبل إتمام المرحلة الثانوية، ففي بعض البلدان الأوروبية يمكن للطالب أن يتحول لدراسة تخصص معين مثل المجالات الفنية إذا وجد في نفسه شغفاً بها، حتى قبل إتمام سنوات ما قبل الجامعة.
2- التدريب على طرق التفكير لا مواد علمية فقط، بحيث يتدرب الطالب على طريق تحليل المشكلات وحلها، والتفكير الناقد، وتعليم الطالب كيفية التعلم والحصول على المعلومات والقدرة على اكتساب المهارات، بحيث يكون التعلم حالة دائمة غير مرتبطة بالدراسة الأكاديمية.
العالم العربي والإسلامي يمتلك منظومة قيمية زاخرة منبعها الدين الإسلامي وتتسق مع الفطرة الإنسانية
3- التعليم من خلال تطبيقات ونماذج عن طريق التعلم القائم على التحدي، لتحفيز الطالب لتطبيق ما تعلمه، حيث يكون للطلبة مشروع للعمل عليه، وفي مراحل دراسية معينة يكون هناك مشروع لكل مادة تطبيقاً للمادة العلمية.
4- التعليم الشامل ودراسة مواد أخرى غير مواد التخصص؛ لكي يكون الطالب واعياً بأشياء ومفاهيم أخرى غير تخصصه، فخريج الهندسة مثلاً يكون عنده دراية ببعض العلوم الأخرى مثل العلوم الإنسانية أو علوم الطب أو الاقتصاد.
5- الاهتمام بالانفتاح على الثقافات الأخرى، فغالباً ما تتيح الجامعات في الدول الغربية فرصة السفر للطلاب ودعمهم للتعرف على مجالاتهم في البلدان الأخرى وللتعلم مهارات التعامل مع الثقافات الأخرى.
6- التماشي مع احتياجات سوق العمل، وتركيز التخصصات العلمية على الصناعة التي يتميز بها البلد، فمثلاً إذا كان هناك بلد متفوق في صناعة السيارات؛ نجد تخصصات كليات الهندسة تدور حول هذه الصناعة وهكذا، وبالتالي تتماشى التخصصات مع سوق العمل.
هذه المبادئ الفعالة في العملية التعليمية الآن عند الغرب نجدها كانت في عالمنا العربي والإسلامي قبل استيراد الأنظمة الغربية القديمة، فكانت هناك حرية للطالب في اختيار المواد التي يدرسها، ففي معظم البلاد العربية كان الصبيان يتعلمون الكتابة والقرآن ومبادئ النحو، وعندما كان التلاميذ يتمكنون من هذه المواد والمهارات كانوا يسمعون الشعر والحديث، وكان بعضهم يستمر في الدراسة ويتعمّق في واحدة أو أكثر من المواد الدينية أو الأدبية أو العلمية، وكان الأمر يختلف باختلاف استعداد الطفل ومدى قابليته للتعلم، وإمكانياته للانتقال إلى المرحلة التعليمية التالية.
وكان علماء المسلمين يؤثرون السفر للتعلم والمعرفة والاختلاط بالمجتمعات الأخرى، مثل الإمام الشافعي الذي ولد في بلاد الشام وخاض رحلة علمية زاخرة انتقل خلالها إلى مكة ثم إلى المدينة ثم إلى اليمن ثم بغداد ثم إلى مصر.
وقد كان الكثير من علماء المسلمين يتفوقون في العديد من العلوم لا علماً واحداً، مثل ابن سينا الذي كان عالماً بالطب والفلسفة وكان أديباً وشاعراً، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد.
ورغم التقدم العلمي عند الغرب الذي ساهم بدوره في الازدهار والتنمية، يبقى الجانب القيمي والأخلاقي على هامش العملية التعليمية، بل أحياناً هناك تشجيع في المدارس والجامعات على ما يخالف الفطرة الإنسانية، فيجب أن نقر أن هذا التقدم العلمي به عوار، لأن أحد أدوار العلم أن يؤدب الإنسان ويهذب سلوكه.
وفي المقابل نجد العالم العربي والإسلامي ذا منظومة قيمية زاخرة منبعها الدين الإسلامي وتتسق مع الفطرة الإنسانية، التي لو دعمها تعليم متطور لبنى حضارة عظيمة وليس مجرد تنمية.