من بين الأدواء التي تقف حجر عثرة في طريق السالكين إلى الله تعالى داء «العشق وتأليه الهوى».
لقد عاب القرآن الكريم على نفر من الناس عبدوا هواهم من دون الله تعالى، قال عز وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23)، وقال تعالى: (وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26)، وقال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).
والمتتبع لأقوال علماء السلف الصالح وأفعالهم يجد أنهم كانوا يتخوفون الوقوع في هذا الداء، كما أنهم كانوا يستعيذون منه كما يستعيذون من الشيطان الرجيم.
قال الإمام علي بن طالب رضي الله عنه: «إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة»، وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: «جهاد هواك»، وقال ابن تيمية: «جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم»، وقال بشر الحافي: «البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه»، وقال عطاء: «من غلب هواه عقله وجزعُه صبرَه افتضح»، وقال أبو علي الثقفي: «من غلبه هواه توارى عنه عقله».
والهوى، والعِشْق، والغَرَام، والمَحَبَّة، والمَوَدَّة، والوَجْد، كلمات بمعنى واحد، وهو: ميل النفس إلى ما تشتهي، وعشق الشيء وتمكنه من القلب.
وقال علماء اللغة: متى تكلم بالهوى مطلقاً لم يكن إلا مذموماً، حتى ينعت بما يخرجه عن معناه، كقولهم: «هوى حسن، وهوى موافق للصواب»(1).
أما المراد بالعشق وتأليه الهوى عند علماء التربية فهو: السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة.
قال ابن الجوزي في كتاب «المواعظ»: لله درُّ نفس تطهرت من أجناس هواها، وتجلببت جلباب الصَّبر عند دنياها، وشغلها ما رأى قلبُها عما رأت عينَاها، وإن مالت إلى الدنيا نهاها نُهاها، وإن مالت إلى الهوى شفاها، سهرت تطلب رضا المولى فرضي عنها وأرضاها، وقامت سوق المجاهدة على سوق هداها، فباعت حرصها بالقناعة فظفرت بغناها، وفوقت سهام العزائم إلى أهداف المحارم تبتغي علاها، ورمت نجائب الأسحار فساقها حادي الاستغفار إذ عناها، وقطعت بيداء الجد بآلة المستعد فبلغت مُنَاها(2).
العاقبة
للعشق وتأليه الهوى عواقب خطيرة على الفرد والعمل الإسلامي، أما على مستوى الفرد: فيصاب بالبعد عن الطاعة؛ وذلك لأن صاحب الهوى يعز عليه أن يطيع غيره، خالقاً كان هذا الغير أو مخلوقاً، حيث إن الهوى قد تمكن من قلبه، فصار أسيراً لديه، فيمرض قلبه ويستهين بارتكاب الذنوب والمعاصي، بل ويتسبب في إضلال الآخرين وإبعادهم عن طريق الله تعالى.
أما على مستوى العمل الإسلامي: فيتسبب في إبعاد الناس عنه، وتمزيق وحدة الصف، والحرمان من العون والتأييد الإلهي، وصدق الله تعالى حينما قال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف).
الأسباب
للوقوع في براثن هذا الداء أسباب كثيرة ومتنوعة، منها:
– النشأة: ذلك أن الإنسان قد يلقى من أبويه في الصغر حباً مفرطاً ودلالاً فوق العادة، فتؤثر تلك النشأة على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لا بد منها لتنظيم الرغائب والدوافع، وحينئذ يكبر هذا الإنسان ويكبر معه الانسياق وراء العواطف والرغائب، حتى لو اصطدم بشرع الله تعالى وخالفه.
– مخالطة أصحاب الهوى: ذلك أن العواطف والدوافع تنمو بالمخالطة وطول الصحبة؛ ولذلك فمن أدام مجالسة أهل الأهواء وصحبتهم، فلا بد أن يتأثر بهم.
– حب الدنيا والركون إليها: ذلك أن حب الدنيا يولد السعي الحثيث لتلبية كل ما يفرضه هذا الحب وذلك الركون، حتى وإن كان مخالفاً لمنهج الله، وهذا بعينه هو تأليه الهوى.
– الجهل بعواقب تأليه الهوى: ذلك أن من جهل عواقب محظور من المحظورات وقع في هذا المحظور دون أدنى اهتمام أو مبالاة، ولعل هذا هو السر في اهتمام التشريع الإسلامي بالتذكير بالعواقب المترتبة على ترك المأمورات وفعل المنهيات.
العلاج
على كل من يريد أن يتطهر من هذا الداء أن يتبع الخطوات التالية:
1- تذكر عواقب تأليه الهوى على الفرد والعمل الإسلامي، فإن ذلك له دور كبير في تخليص النفس من أهوائها وشهواتها.
2- الابتعاد عن مجالسة ومصاحبة أهل الهوى، والحرص على مجالسة أهل الصلاح والاستقامة، فإن ذلك يعين على تحرير النفس من هذا الداء.
3- مدارسة سير أصحاب تأليه الهوى وعاقبتهم، فإن ذلك يولد في النفس نفوراً من الوقوع فيما وقعوا فيه.
4- التحذير من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها مع التعلق بالآخرة بحيث يبتغى المسلم فيما آتاه الله تعالى الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا.
5- مجاهدة النفس، وحملها على التخلص من أهوائها وشهواتها ورغباتها التي تخالف أحكام الله تعالى.
6- التذكير بأن السعادة والراحة والطمأنينة والفوز إنما هي في اتباع ما أمر الله تعالى به، واجتناب ما نهى عنه، لا في اتباع ما تأمر به النفس وما تهوى(3).
________________________
(1) لسان العرب (3/ 849).
(2) مواعظ ابن الجوزي الياقوتة (1/ 99)، بتصرف.
(3) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 206).