من المفارقات أن «الدولة» التي أُنشئت بقرار أممي ستكون لاحقًا هي الأكثر استخفافًا بالمجتمع الدولي ومنظماته؛ السياسية والإنسانية والحقوقية، والمقصود في حالتنا هنا الكيان الصهيوني، الذي لا يتوانى عن إظهار استعلائه على المجتمع الدولي، وعدم اكتراثه بما تفرضه المؤسسات الدولية ولو بالحد الأدنى في الحقوق والممارسات.
ونستطيع أن نرصد وبوضح مظاهر هذا الاستعلاء الصهيوني عبر عدة محطات أساسية، لا سيما في السنة الماضية، منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، وما أكدته بيقين من أن الكيان الصهيوني مصاب بتورم في الذات يجعله يتصرف متجاهلاً المؤسسات الدولية حينًا، ومعتديًا عليها حينًا آخر!
– هجوم على الأمين العام وتمزيق «الميثاق»:
أولى هذه المحطات الاستعلائية، كانت بعد أيام من «طوفان الأقصى» (25 أكتوبر 2023م)، وتمثلت في هجوم سافر من مندوب «إسرائيل» الدائم لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، بعد أن قال: «هجمات «حماس» لم تأتِ من فراغ في ظل معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال «الإسرائيلي» الخانق لأكثر من 5 عقود».
كلمات جوتيريش الشجاعة والحقيقية أثارت غضب الكيان، وكتب إردان على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»: «من العار على الأمم المتحدة أن أمينها العام لم يتراجع عن كلماته ولا يستطيع حتى الاعتذار عما قاله»، وطالبه بالاستقالة.
لاحقًا، وفي 10 مايو 2024م، سيقوم إردان بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة، بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة (بأغلبية 143 عضوًا) بتوصية لمجلس الأمن بإعادة النظر في عضوية الفلسطينيين بشكل إيجابي.
ولا يخفى عما في هذا التصرف الأهوج، تمزيق ميثاق المنظمة الدولية، من دلالات على عدم احترام المنظمة، وتجاهل قراراتها!
– تشويه واستهداف «الأونروا»:
أما وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فقد نالها النصيب الأوفى من الاستعلاء الصهيوني؛ وكانت البداية من زعم الكيان باشتراك بعض موظفي الوكالة في هجمات «حماس» يوم السابع من أكتوبر، بما بدا أنه زعمٌ يهدف لتقليص عمل الوكالة أو إنهائه، فضلاً عن توظيف هذا الزعم لحث الدول المانحة على وقف دعمها للوكالة.
ولهذا، ففي أعقاب مزاعم «إسرائيل»، أوقفت أمريكا، الجهة المانحة الرئيسة لـ«الأونروا»، وعدد متزايد من الدول، تمويل المنظمة، التي توظف حوالي 13 ألف شخص في غزة، مع تصاعد الكارثة الإنسانية في القطاع الفلسطيني المحاصر.
فيما قامت «الأونروا» بفصل بعض موظفيها، ردًّا على المزاعم «الإسرائيلية»؛ حتى يتم التحقيق، وتقطع الطريق على الكيان، وذلك قبل أن يقوم الكيان لاحقًا بتصعيد الموقف من الوكالة.
فقد قال مفوض «الأونروا» العام فيليب لازاريني، في بيان: قدمت السلطات «الإسرائيلية» لـ«الأونروا» معلومات عن الاشتباه بضلوع عدد من موظفيها في الهجوم، مضيفًا: من أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدات الإنسانية، قررت إنهاء عقود هؤلاء الموظفين على الفور وفتح تحقيق حتى إثبات الحقيقة بدون تأخير.
لكن ذلك لم يشبع نهم الكيان، ففي 4 نوفمبر 2024م، أرسلت «إسرائيل» رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة أخطرتها فيها بأنها ستنهي الاتفاقية التي تسمح لـ«الأونروا» بالعمل في الأراضي الفلسطينية، التي كانت سارية المفعول منذ نهاية حرب الشرق الأوسط عام 1967م.
وما بين حملات تشويه الوكالة وإنهاء عملها، لم يتوقف العدوان «الإسرائيلي»، الذي شمل قتلَ عدد من موظفي الوكالة، والاعتداءَ على مدارسها، ففي 30 يونيو 2024م، كتب المفوض العام لـ«الأونروا» لازاريني مقالاً مطولاً أوضح فيه أن الحرب على قطاع غزة أسفرت عن تجاهل صارخ لمهمة الأمم المتحدة، بما يشمل الهجمات الشنيعة على موظفي وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين، وعلى مرافقها وعملياتها.
وأكد أنه ينبغي أن تتوقف هذه الهجمات، ويجب على العالم أن يتحرك لمحاسبة مرتكبيها، مشيرًا إلى أن الوكالة، وحتى كتابة مقاله، تحققت من مقتل ما لا يقل عن 193 من موظفيها في غزة، فيما تعرض ما يقارب من 190 مبنى لـ«الأونروا» للأضرار أو للتدمير، كما تعرضت مدارس الوكالة للهدم، وقُتل ما لا يقل عن 500 نازح أثناء إيوائهم في مدارس «الأونروا» وغيرها من المباني، ومنذ السابع من أكتوبر، قامت القوات «الإسرائيلية» باعتقال موظفي «الأونروا» في غزة، الذين أفادوا بتعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة أثناء احتجازهم في قطاع غزة أو في «إسرائيل».
– هجوم وتهديد المدعي العام والجنائية الدولية:
ففي مايو 2024م أعلن كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أنه تعرض لتهديدات تتعلق بطلبه إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع (المُقال) يوآف غالانت.
وذكر خان لشبكة «سي إن إن» الأمريكية، أن بعض السياسيين تحدثوا معه، وكانوا صريحين للغاية، وقالوا: «هذه المحكمة أنشئت من أجل أفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين»! موضحًا أن هذا ما قاله أحد كبار السياسيين له.
وقد وقع 12 عضوًا في مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري رسالة إلى خان تحذره من إصدار مذكرة اعتقال دولية ضد نتنياهو، وتهدده بـ«عقوبات صارمة»، وفي الرسالة تم إبلاغ خان أن أي محاولة من الجنائية الدولية لمحاسبة نتنياهو ومسؤولين «إسرائيليين» على جرائمهم في غزة سيتم تفسيرها ليس فقط على أنها تهديد لسيادة «إسرائيل»، بل لسيادة الولايات المتحدة أيضًا.
ووجهت الرسالة التحذير لخان بالقول: «استهدِف «إسرائيل» وسنستهدفك، سنعاقب موظفيك وشركاءك، ونمنعك أنت وعائلتك من دخول الولايات المتحدة، لقد تمّ تحذيرك»!
وفي 21 نوفمبر الجاري، أصدرت الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال دوليتين بحق نتنياهو، وغالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، موضحةً في بيان أن ثمة أسبابًاً منطقية للاعتقاد بأن نتنياهو، وغالانت يتحمل كل منهما المسؤولية الجنائية عن الجرائم التالية، باعتبارهما مشاركين في ارتكاب الأفعال بالاشتراك مع آخرين:
– جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب.
– والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية.
وعلى الفور، بدأ هجوم الكيان على المحكمة، وكان اللافت أن الهجوم جاء من الحكومة والمعارضة على السواء! فقد وصفت رئاسة الوزراء «الإسرائيلية» المدعي العام للمحكمة بالفاسد، معتبرة مذكرتيْ الاعتقال معادية للسامية، فيما وصف زعيم المعارضة يائير لابيد مذكرات الاعتقال أنها مكافأة للإرهاب، وطالب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بفرض السيادة على الضفة، والتوسع في الاستيطان.
حماية لأبعد مدى
هذه المحطات التي استعرضناها، وغيرها كثير، تؤكد أن الكيان الصهيوني يتصرف باستعلاء ممجوج تجاه المشهد الدولي، وما يمثله من منظمات سياسية وإنسانية وحقوقية، وذلك راجع بالأساس إلى أنه كيان يتمتع بالحماية الأمريكية والغربية لأبعد مدى، وقد استخدمت أمريكا «الفيتو» 4 مرات لوقف مشاريع قرارات بوقف الحرب في غزة، فضلاً عن الدعم العسكري والاقتصادي.
لكن ما يجب أن يعرفه الكيان أنه حتى لو تمتع بالغطاء السياسي، وربما القانوني، إلى حين؛ فإن الغطاء الأخلاقي بدأ في الانكشاف عنه، وبدرجات متسارعة، بفضل «طوفان الأقصى»، وهذه خطوة مهمة لها ما بعدها.