في عام 2016م، ظهر وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش في «القناة الثانية العبرية» ليدلي بتصريحات أعيد تداولها مؤخراً حيث قال حينها، وهو نائب في «الكنيست»: إن حدود القدس يجب أن تمتد حتى العاصمة السورية دمشق، وإن على «إسرائيل» الاستيلاء أيضاً على شرق الأردن.
لم تكن تلك التصريحات مجرد كلمات عابرة، وإنما حلم يتردد صداه في أوساط اليمين الصهيوني المتطرف الذي تعود جذوره لمعتقدات أرسى أسسها قادة الصهيونية، فقد أعلن ثيودور هرتزل في عام 1904م عن مشروعه التوسعي، زاعماً أن حدود دولة «إسرائيل» تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات، ومدعياً بأن لليهود حقاً تاريخياً في أرض فلسطين.
وهنا تبرز العديد من التساؤلات حول: الأساليب التي استخدمتها الصهيونية لتبرير احتلال فلسطين، وإلى أي مدى ساهم الإعلام الغربي في تعزيز هذه السردية؟ وما دور الإعلام العربي في مواجهة آلة الكذب الصهيونية؟ وكيف استطاعت السردية الفلسطينية التصدي للرواية التي تروّج لمظلومية «إسرائيل»؟ وما التحولات التي شهدها الرأي العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية، خاصة في ظل الأحداث الأخيرة بغزة؟
سردية تتحدى التاريخ
لطالما كانت السردية عنصرًا محوريًا في الصراع العربي الصهيوني، فمنذ إعلان دولة الاحتلال عام 1948م، تبنت السردية الصهيونية مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي روج لها زعماؤها كإسرائيل زانغويل، وثيودور هرتزل لتبرير احتلال الأراضي الفلسطينية.
وقد اعتمدت على مفهوم «المظلومية» زاعمة أن لـ«إسرائيل» الحق في الدفاع عن نفسها، لكن في المقابل كانت هناك حكاية مؤلمة وحقيقة يسردها الفلسطينيون حكاية نكبة وتهجير لمئات آلاف العائلات من بيوتهم.
بحسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، هُجر 800 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون عام 1948م، خلال تلك الفترة، سيطرت «إسرائيل» على 774 قرية ومدينة فلسطينية دمرت منها 531 بالكامل، بينما خضعت البقية للاحتلال وارتُكبت أكثر من 70 مجزرة راح ضحيتها أكثر من 15 ألف فلسطيني.
أما السردية الصهيونية، فكانت مختلفة ومعتمدة على مرجعيات دينية وتاريخية مُتخيلة بُنيت على وعدين أساسيين: الأول: «وعد بلفور» الذي تحقق قبل قرن في العام 1917م، والثاني: فكرة الأرض الموعودة التي تمتد من النيل إلى الفرات.
ولكي يثَبِّت روايته أنشأ الكيان الصهيوني 200 متحف، وفق «المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية»، ولم يكتف بذلك، بل قام بعملية دعاية مضادة عبر ضخ أموال طائلة لإنتاج أفلام عن معاناة اليهود.
ويشير الباحث محمود عبدالهادي، في مقال له بموقع «الجزيرة نت»، إلى أن أكثر من 385 فيلمًا وثائقيًا ودراميًا أُنتج عن المحرقة، من بينها فيلم «One Life»؛ أي «حياة واحدة» الذي بلغت تكلفته 10 ملايين دولار، وفق موقع «ديلي إكسبرس» البريطاني.
لكن الأمور لم تسر كما خُطط لها، إذ ظهرت أصوات من داخل المجتمع «الإسرائيلي» قبل غيره لتفند سرديات الاحتلال، وكان من أبرز هذه الأصوات المؤرخ إيلان بابيه الذي ذكر في كتابه «10 خرافات عن إسرائيل» كذب الادعاء بأن فلسطين كانت أرضاً فارغة وقاحلة، وأن الصهاينة هم من قاموا ببنائها وزراعتها، وقد تحدى بابيه هذه الرواية بالعودة إلى السجلات العثمانية للتعداد السكاني، كاشفاً أن فلسطين كانت مأهولة منذ العصر الروماني والغالبية العظمى كانوا مسلمين، في حين لم يتجاوز عدد اليهود 3%.
تتكرر المنهجية اليهودية، وتُطل أحداث «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، فتعاود السردية ذاتها لتعتبر أن ما حدث هجوم مدمر لتحظى معه بدعم دولي واسع من عالم غربي يحول الضحية إلى جلاد، والجلاد إلى ضحية فيهرول رعاة الكيان إلى «تل أبيب» ويعلنون صراخهم وينزعون ثوب الدبلوماسية التي طالما روجت أنها راعية الإنسانية في العالم الحر.
وعلى أرض «تل أبيب» يهبط وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في 12 أكتوبر لكنه هبط بالثوب الذي طالما حاولوا أن يخفوه فيصرح بلا مواربة: «أنا هنا بصفة شخصية كيهودي فر جده من القتل»، في مشهد يعلن فيه دعمه للاحتلال، ويفسح له المجال في فتح آلة القتل والإبادة، ولتكتمل سردية المظلومية الباهتة فيعلن أن «حماس» قامت بمجزرة ضد المدنيين «الإسرائيليين» ضارباً الذكر عن مأساة يعيشها الغزاويون من حصار خانق وآلة قتل تعربد في كل شبر من أرض فلسطين.
بين الانحياز والصمت
على مر العقود، مارست وسائل الإعلام دوراً أساسياً في تشكيل الرأي العام، ومع ذلك قبل عملية «طوفان الأقصى» كانت التغطية الإعلامية الغربية لقضية فلسطين محدودة متجاهلة الإشارة إلى احتلال «إسرائيلي» للأراضي الفلسطينية، لكن من بعد «طوفان الأقصى» استضاف الإعلام الغربي شخصيات تنتمي للقضية الفلسطينية لتوريطها في إدانة المقاومة.
ففي مقابلة أجرتها قناة «BBC» مع سفير فلسطين لدى بريطانيا، حسام زملط طرح المذيع سؤالًا: هل تدين ما قامت به «حماس» بوصفه إرهابًا؟ متجاهلًا الضحايا الفلسطينيين الأبرياء.
ومنذ بداية العدوان على غزة، برز المذيع البريطاني بيرس مورغان المعروف بتحيزه لـ«إسرائيل» في معظم مقابلاته، كان يسعى بشكل متكرر إلى تشويه صورة المقاومة الفلسطينية.
في المقابل، ظهر الإعلام العربي كقوة فاعلة في مواجهة الدعاية الصهيونية وكانت شبكة «الجزيرة» في طليعة هذه الجهود عبر نقل مشاهِد حية للعدوان، إلا أن هذا التوجه المهني لم يمر دون ثمن، فقد أثارت الشبكة غضب الكيان الصهيوني الذي رد بإغلاق مكاتبها، ولأن الصورة قد أضرت بأمنه، على حد قول قادته، قامت «إسرائيل» بقتل صحفيي «الجزيرة» عن سبق إصرار وترصد، وما زالت تلاحقهم من أجل وقف الصورة وطمس السردية الفلسطينية.
في تحقيقاتها، كشفت القناة عن شبكة حسابات زعمت أن «حماس» قطعت رؤوس 40 طفلاً «إسرائيلياً»، وهي إشاعة انطلقت من مراسلة قناة «آي 24» العبرية، ورغم عدم وجود أي دليل انتشرت الرواية وتبناها الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل أن يتراجع البيت الأبيض عنها.
وفي محاولة لتعزيز هذه الادعاءات، نشر رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو صورة لطفل، مدعياً أنه ضحية لـ«حماس»، لكن الصحفي الأمريكي جاكسون هينكل كشف زيف هذه الصورة، موضحاً أنها تعود في الأصل إلى كلب تم التلاعب بها باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي.
تحولات كبرى
مع تصاعد العدوان على غزة، فرضت السردية الفلسطينية نفسها مدعومةً بتعاطف عالمي، وبرزت أدوار لمشاهير عرب وأجانب في دعم فلسطين، فمثلاً، انتشرت مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورغان كالنار في الهشيم.
نتيجة لذلك خرجت مظاهرات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب للتضامن مع الفلسطينيين، وبدأت مواقف أوروبية تتغير خصوصاً مع ارتفاع عدد الضحايا المدنيين ليصل الأمر إلى تراجع الاتحاد الأوروبي عن قرار تعليق المساعدات الإنسانية لغزة.
وقد رصد الباحث بمركز الزيتونة للدراسات د. وليد عبدالحي مدى التحول في موقف الرأي العام الدولي بعد عملية «طوفان الأقصى»، وخلص إلى أن الاتجاه السائد في الصحافة العالمية يشير إلى خسارة «إسرائيل» لمعركتها الإعلامية.
لم يتوقف الضغط الدولي عند الحدود السياسية، بل امتد إلى الساحة القضائية، فقد أصدرت محكمة الجنايات الدولية أوامر اعتقال بحق نتنياهو، ووزير حربه يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
بالتوازي مع ذلك، دعت محكمة العدل الدولية لوقف العدوان على غزة وفتح المعابر الإنسانية، هذه التحركات وضعت الكيان الصهيوني تحت المجهر الدولي، وفتحت الباب أمام دول أوروبية، مثل أيرلندا وإسبانيا والنرويج، للاعتراف بفلسطين مما أضاف شرعية دولية جديدة للقضية الفلسطينية.
لقد كبر مارد الخوف لدى قادة الكيان نتيجة لدور الإعلام، وخاصة قناة «الجزيرة» في كشف جرائم الصهاينة في غزة مما ساهم في توثيق دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر 2023م.
إن التحولات التي شهدتها الساحة الدولية تعكس بداية مرحلة جديدة في مسار الصراع ومع ذلك، يبقى التحدي قائماً في مواجهة الدعاية الصهيونية؛ ما يتطلب تكثيف الجهود الإعلامية والسياسية لدعم حقوق الفلسطينيين وفضح ممارسات الكيان التي تتجاوز حدود الأخلاق والإنسانية.
فهل يستمر الاحتلال في فرض روايته؟ أم أن الصوت الفلسطيني سيتعالى، محققًا مزيدًا من الاعتراف والدعم على الساحة العالمية؟