ليس أشق على الإنسان حين يقع في أزمة أو ورطة أو موقف لا يستطيع الخروج منه بمفرده، ثم هو ينتظر من أقرب المقربين أن ينصروه، أو يعينوه، ثم هم يخذلونه ويتركونه في مصيبته وحيداً، ولا يتوقف الأمر عند الخذلان، وإنما يمتد لأن يكون مصدر النصرة، هو نفسه مصدر الألم وعون العدو على صاحبه
وقد انقسمت الأمة اليوم بين اثنين؛ إما خاذل، وإما مخذول، إما مجاهد يقف على الثغور وحده بذل أبناءه وإخوانه وذويه وأمواله وبيوته ثم روحه ليذود عن شرف المسلمين في الدفاع عن مقدسات الأمة، فخذلته الأمة إلا من قليل تغلّب على فتنة الخذلان فوقف محاولاً سد الثغرات قدر استطاعته بالمال والطعام والدواء، لكن الثغرات أكبر من قدرة جانب من المسلمين منفرداً، الثغرات تحتاج للأمة قاطبة كي تقف تسدد وتقارب بعد أن ارتقى لله شاكياً الخذلان عشرات الألوف شهداء، ومثل أعدادهم مرات ومرات جرحى، وجوعى، ومشردين في البرد والخيام الممزقة.
موقف الشريعة من الخذلان
وككل خلق رديء لا يليق بالمجتمع المسلم، ذمت الشريعة الإسلامية التي بنت مجتمعاتها على التكامل والتكافل والأخوة والحب؛ خُلُق الخذلان في نصوص القرآن الكريم والسُّنة، يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان).
وفي خذلان الشيطان لأتباعه في الآخرة يقول تعالى: (وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (إبراهيم: 22).
ومن أمثلة خذلان الشيطان لأتباعه في الدنيا: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 48).
ومن سمت المنافقين أن يخذل بعضهم بعضاً، فيقول تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) (الحشر).
وأما عن حال المؤمنين بأخلاقهم الربانية التي شرعها الله سبحانه لهم فاستجابوا، فيقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {72} وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال).
ثم يأتي الحديث النبوي مؤكداً على أهمية إغاثة المسلم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» (رواه مسلم)، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ فوق يديه» (رواه البخاري).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» (رواه أبو داود)، وعن ابن مسعود قال: قال المقداد يوم «بدر»: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»، ولكن امض ونحن معك، فكأنه سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري).
من صور الخذلان
من أشد صور الخذلان بين المسلمين حين تجاهد فئة منهم ويتركها الباقون للعدو يستهلكهم بينما بقية إخوانه يتفرجون، يقول تعالى في هؤلاء واصفاً إياهم بالنفاق: (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران).
وكأن النص القرآني تنزل اليوم يصف حال فئة قليلة تحارب دون دينها وعرضها وأرضها ومقدساتها، ثم يخرج من بين إخوانهم من يتهمهم بأنهم هم سبب تلك الدماء المبعثرة ولم ترحم طفلاً أو امرأة أو شيخاً.
وقد فعلها من قبل رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول، ففي غزوة «أحد» خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم للصلاة بمن بقي بالمدينة من المسلمين، فلما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشوط بين المدينة وأحد، انصرف عبدالله بن أبي ابن سلول بثلث الناس(1).
ومن صور الخذلان في المجتمع انتهاك حرمة المسلم ولا يجد من ينصره، وسرقة مال الضعيف ولا يجد من يرد حقه، لتسود في المجتمع الكراهية والتفكك.
آثار الخذلان
وللخذلان آثار مدمرة على المجتمع المسلم يجب على الجميع أن يحمل على تلافيها قبل أن تطال آثارها الجميع، ومنها:
انتشار الأنانية وحب الذات، وتضيع بالمجتمع قيم التعاون والشهامة والنجدة والإغاثة علاوة على الجبن واللامبالاة تجاه مصائب الآخرين؛ وبالتالي تنعدم أواصر الأخوة بين المسلمين، فأي أخوة تولد في مجتمع يضيع فيه حق الضعيف دون أن يهب الجميع لرد هذا الحق وحمايته؟! وبالتالي تحدث الهزائم المنكرة، والمتكررة للمسلمين المتشرذمين والمقطعين لفصائل لا ينصر بعضها بعضاً، ثم يلاحق العار الجميع مدى الدهر، ثم تدور الدوائر على المتخاذل ليذوق من نفس الكأس الذي شرب منه أخوه المسلم.
كيفية العلاج
وككل داء يصيب قلب المسلم وسلوكه جعل الله عز وجل له علاجاً يستدرك به المسلم نفسه قبل أن يضيع في غياهب الكبائر، والعلاج الأول هو أن يعمل على تقوية إيمانه، فالإيمان يزيد وينقص، ومع زيادته تتحسن الأخلاق، ومع نقصه تسوء، ومن خلال زيادة الإيمان وحسن العلاقة بالله عز وجل يستشعر المسلم قيمة الأخوة في الله ودرجتها وثوابها، فيهرع لنجدة أخيه رغبة في أجر الأخوة وتأكيداً لها.
وعلاوة على ذلك، يتحلى بمكارم الأخلاق التي تليق بالمسلم كالشجاعة والنجدة، ومع اكتمال الإيمان يدرك المسلم أنه يجب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فيسرع لتحقيق شرط اكتمال الإيمان، وأن يدرب المسلم نفسه على مجاهدة السلبية، ويدربها على الإقدام ونبذ الخوف.
______________________
(1) جوامع السيرة لابن حزم، ص 124.