تتخبط الأسرة العربية الحديثة في جملة من المعضلات المعيقة لتقدمها نحو الأسمى من الغايات؛ أي الإعمار والاستقرار، وهي تحديات ناتجة عن التحولات الاجتماعية والثقافية؛ مما أفرز حالة من الضنك والتعسير بدل السعادة رغم ارتفاع المستوى المعيشي، واستغلال إنجازات الثورة التكنولوجية والمعرفية، تتصدر التحديات المعنوية المجالات كلها، لعلاقتها بما يواجهنا من تيه فكري يتمثل في أزمة مفهومية كبرى، لا نعرف منها فكاكاً، ولا نحسن لها صداً، تهدد الأمن الفكري للأسرة العربية، وبالتالي تمحور البحث حول درس مصطلحات النسوية الغربية وإشكالاتها، ومحاولة الحفر في جذور المصطلح وتتبع المفاهيم ضمن أسسها الفكرية، وتحديد الموقف الفكري منها بناء على أطرها المرجعية والرؤية الفكرية التي تحكمها، وصولاً لتوضيح خط سيرها حتى مآلاتها في الثقافة العربية.
والحديث هنا يخص النسوية الغربية الحديثة، التي شكلت بؤرة فكرية تتأسس على الصدام والقطيعة مع كل الأشكال المؤسساتية والمجتمعية بصفتها أماكن استضعاف للمرأة، واستلاب لكينونتها وجسدها، والأخطر مواصلة نشاطات النسويات والنضال لضرب الأسرة، وتعطيل وظائفها، وخلخلة العلاقات البنائية فيها، وإضعاف التماسك الأسري (التراحم)، واختراق خصوصيتها بطابع عالمي عابر للثقافات، وعلى مدى بعيد، تحضيراً لنسف دعائمها، والقضاء عليها نهائياً.
وبالتالي نطرح الأسئلة الآتية:
– كيف نؤسس لبعث الوظيفة المحورية للأسرة، في زمن انهيار معنى الأسرة؟
– ما التوصيف الدقيق لمصطلحات النسوية الغربية؟ وما إشكالاتها ومفارقاتها بين الثقافتين الغربية والعربية في إطار التفاعل الحضاري؟
– ما مرجعيات النسوية الغربية؟ وما آليات اشتغالها في استهداف الأسرة؟ أي البحث عن تمثيلات النسوية الغربية في ثقافة الأسرة العربية (أهم المظاهر والصور)، وقبل ذلك الحفر في جذورها وقراءة مرجعياتها وصولاً إلى آليات اشتغالها وحركيتها في الواقع الثقافي العربي.
وللإجابة عن هذه الأسئلة كانت التأويلية هي الأداة المنهجية التي توخيناها لإعادة صياغة مقولات النسوية الغربية، بعد تفكيكها بالعودة إلى مرجعياتها، والحفر في جذورها، والنظر إليها في مآلاتها وآثارها.
وتبقى الأسرة النواة الأولى في تشكيل الشخصية، وبناء القيم وتوجيه نمط الحياة المعاصرة، ولا بد من تكثيف الجهود لمدها بالحصانة اللازمة للبقاء والاستمرارية، وتأكيد أمنها الفكري لتحقيق أمن المجتمع، وبالتالي تهدف الدراسة إلى فهم مصطلحات النسوية وفق سياقاتها المعرفية، من أجل تبيين انعكاساتها وتجلياتها من داخل الأسرة وفي المجتمع.
أولاً: الوظيفة المحورية للأسرة في زمن عولمة الأفكار:
لا شك أن البحث في موضوع الأسرة له أهمية بالغة على الصعيدين النظري والعملي، لأنه تتعلق بالإنسان في حاضره ومستقبله، وأيضاً في تاريخه وثقافته، ولهذا من الضروري السعي لفهم مقتضيات الحياة الأسرية في ظل الانفتاح الكبير على ثقافات العالم، من شأنه يكسبنا معرفة بالمشكلات والأخطار التي تنصب علينا، وهذا يعطينا قدرة على التخطيط للوقاية منها في المستقبل حتى نتجنب انهيار الأسرة وتفكك أواصرها، وتراجع القيم المتصلة به(1).
في عالم صاخب بالثقافات، تتجمع فيه الأفكار وتتصارع داخل الوحدات، والمجموعات الإنسانية، بكل أزماتها، تتجاور فيها الآمال والآلام، وتزداد فيه عولمة المناشط والسلوكيات، لدرجة الوقوع في مأزق الاستلاب والانسلاخ وفقدان الحصانة.
إنها عواصف الثقافة الوافدة، تعمل بلا هوادة لزعزعة الدور المركزي للأسرة، في التنشئة السليمة، والإمداد الروحي والفكري، للنهوض بالدور الحضاري.
ومن أجل ذلك تنهض الأسرة كمؤسسة شاملة لحماية الأجيال ما دامت هي المحل الذي يتعلق فيها الإنسان بغيره تعلق نسب، ويتخلق فيها بحسب هذا التعلق(2)، وهذا التعريف مهم جداً، في بيان مفهوم الأسرة وفق المهمة التي أنيطت بها، وهي مهمة لا يمكن إسنادها لغيرها من التنظيمات أو المؤسسات، وكأنها عملة واحدة بوجهين، لو حاولنا فصمهما عن بعضهما بعضاً فسدت، فهي تحافظ على الرابطة الدموية (حفظ الأنساب)، وهي أهم وظيفة تقوم بها للارتقاء بإنسانية الإنسان وإنقاذه من السقوط، في البهيمية لا يعرف فيها الأخ أخته، ولا تعرف الأم ابنها، ولا يعرف الابن أباه، من جهة أخرى تحافظ على العقيدة والأخلاق التي تنهض لبعث الاستمرار في ربط أواصر الأفراد وحفظ العلاقات بالقيم، الأولى رابطة مادية جسدية، والثانية رابطة روحية وجدانية، «الأسرة هي إذن منشأ العلاقة الأخلاقية بين الناس بحق، بحيث لا علاقة إنسانية بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير أسرة»(3)، ومن هذين المقومين نلتمس محاولات الاختراق، ومعاول الهدم والإفساد.
أ- تفكيك بنية الأسرة:
تسريب أشكال هجينة متعددة، من مثليين ومتحولين ومخنثين وشواذ جنسياً، لم يعد الشذوذ حالة مزاجية أو مجرد انحراف على مستوى الفرد، وإنما تحول إلى إيديولوجية تهدف إلى إلغاء ثنائية الذكر والأنثى، التي يستند إليها العمران الإنساني والمعيارية الإنساني(4)، ومحاولة زعزعة بنية الأسرة، كمنظومة ثابتة، وميثاق غليظ، لتعم الفوضى الجنسية والإباحية واختلاط الأنساب، ليتم الانتقال من وضوح العلاقات الاجتماعية إلى غموض الصلات العابرة(5)، وما فيها من تفكيك مقومات وأسس الوجود الإنساني مما ينذر بأفول الأسرة، ونهاية الإنسان مع تقويض الحركية الإنجابية.
ب- هدم الوظيفة المركزية للأسرة:
وإفراغها من مضمونها الأخلاقي، وهي تنظيم العلاقات فيما بين العناصر الأسرية تنظيماً محكماً يعلي من قيمة التراحم وحب الانتماء، في إطار تبادلي تشاركي قوامه الاحترام، فالأساس البنائي للأسرة هو أساس وجود، وأما الأساس الأخلاقي فهو استمرار لهذا الوجود؛ لأنه مرتبط بالعلاقات الاجتماعية.
وبالتالي الرابطة الدموية (النسب) تسير جنباً إلى جنب مع الرابطة الأخلاقية (القيم)، وبهما معاً ينهض الدور الحضاري للأسرة؛ أي تنهض الأسرة وفق وظيفتين، وظيفة حفظ الأعراق، ووظيفة حفظ الأخلاق.
هذه الوظيفة المزدوجة (حفظ الأعراق، وحفظ الأخلاق) وظيفة مترابطة متراصة فلا يمكن أن يكون ارتقاء للأخلاق بمعزل عن نقاء الأعراق، وعن أي أخلاق نتحدث في حال اختلطت الأعراق؟ وعن أي أعراق نتحدث في حال فسدت الأخلاق؟
إننا في حالة من التأهب الشديد والرهبة الكبيرة، لفقدان الإيمان بأهمية الأسرة في هذا الزمن، وانصراف الأبناء في الحياة بلا آباء، وأصبحت الرعاية مجرد سلعة مادية للتبادل والمباهاة، في زمن جنون الكينونة، ونرجسية العلاقات في القرب وعن بُعد، والاتخام بالاستهلاك، في بيئة مصنوعة وزائفة بعيدة عن التراحم الأسري ودفء الوجدان الإنساني.
وهذا ما يلخصه علي عزت بيجوفيتش في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»: تسير بيوت المسنين جنباً إلى جنب مع بيوت الأطفال المحرومين، فهما ينتميان معاً إلى النظام نفسه، وهما حالتان للنوع نفسه من الحلول، فبيوت المسنين وبيوت الأطفال تذكرنا بالميلاد والموت الصناعيين كلاهما تتوفر فيه الراحة وينعدم فيهما الحب والدفء، وكلاهما مضاد للأسرة، وهما نتيجة للدور المتغير للمرأة في الحياة الإنسانية، وبينهما ملمح مشترك هو زوال العلاقة الأبوية، ففي الحضانة أطفال بلا آباء، وفي دور المسنين آباء بلا أطفال(6)، وهو زمن انهيار معنى الأسرة، والافتقار لمضمونها الريادي الكبير النابع من تنمية الأخلاق وتنمية الأعراق.
وللحديث بقية..
________________________
(1) أحمد سالم الأحمر، علم اجتماع الأسرة بين التنظير والواقع المتغير، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت- لبنان، ط1، 2004، ص10.
(2) طه عبدالرحمن، روح الحداثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2006م، ص 99.
(3) نفسه، ص 100.
(4) عبدالوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، ط2، 2010، ص 11.
(5) زيجمونت باومان، الحب السائل، تر: حجاج أبو جبر، بيروت، ط 1، 2016، ص19.
(6) علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، تقديم عبدالوهاب المسيري ترجمة محمد يوسف عدس دار الشروق ط 18، 2021، ص 256.