واقع مرير ذلك الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من اختلاف وتنافر وتنازع حتى في المصالح العامة والخاصة رغم وحدة اللغة والتاريخ والدين والمآل، وكل يوم تزداد هوة الخلاف حد التحارب فيما بينها وهذا بين الدول، وأما فيما بين الأفراد في المجتمع الواحد فحدث ولا حرج
والاختلاف غير التنازع، فقد يختلف الأخوان دون أن يتنازعا، فالتنازع هو مخاصمة وعداء قد يؤدي إلى التحارب، يقول تعالى آمراً عباده بالاعتصام به والتوحد حوله وتحذيراً من الفرقة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران).
التحذير من التنازع والاختلاف
حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من التنازع المؤدي للفشل الحتمي فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال)؛ قال ابن كثير: أمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفرون ولا ينكلون ولا يجبنون، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعون فيما بينهم أيضاً فيختلفوا، فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم، وتذهب ريحكم؛ أي: قوتكم ووحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال(1).
وعن نتيجة التنازع والاختلاف في غزوة «أحد» يقول تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عِمرانَ: 152)، وعن حال المشركين يقول تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {48} مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ {49} فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (يس).
وفي حال اختلاف وتحارب فئتين مؤمنتين يجب على المسلمين أن يتدخلوا فوراً ليوقفوا الباغية ثم يصلحوا بينهما، يقول تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (سورة الحجرات: 9).
واهتم النبي صلى الله عليه وسلم حول تلك المسألة التي تدور حولها القيم الإسلامية، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وإن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً؛ يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا له شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به» (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنها ستكون فتنة، ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي إليها، فإذا وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه»، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم، ولا أرض؟ قال: «يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت»، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الطائفتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار» (رواه مسلم).
آثار الاختلاف والتنازع على المسلمين
الاختلاف والتنازع بين المسلمين لا يحتاج بعد التحذير القرآني والنبوي منه لتوقع آثاره الكارثية على الأمة والمجتمعات المسلمة، فيكفي أن تضع يدك على الخريطة الإسلامية لتعرف تلك الآثار وتراها رأي العين في كل قطر، وداخل كل مجتمع، فالضغينة والكراهية بين كل قطرين متنازعين هي أساس العلاقة بينهما.
ويمتد الأمر للتطاول والتناوش، والتحارب الإعلامي، ويصل الأمر للاتهام في الأعراض والأصل والانتقاص من الآخر وكأن كلا الطرفين غريب ولا يجمعهما فوق العروبة الإسلام، يتحرى كلاهما الكذب دفاعاً عن نفسه ونيلاً من الآخر قدر المستطاع ونصرة لرأيه وقضيته الواهية.
يقول ابن خلدون: الاختلاف والتنازع قد يفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي إلى انقطاع النوع(2)، وقد يؤدي النزاع الداخلي أو الخارجي بين المسلمين لسقوط الدولة كما حدث في الأندلس التي ضاعت بعد أن تحارب ملوكها وقادتها وتنازعوا فيما بينهم.
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة: 113)؛ قال ابن عطية: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها؛ لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وصحة نبوته، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا(3).
علاج الاختلاف والتنازع بين المسلمين
يعتمد إنهاء الاختلاف والتنازع بين المسلمين على حسن الاتباع للمنهج الإلهي القرآن والسُّنة المطهرة، وتتبع تعاليم رب العالمين، فحين يكون القرآن هو دستور الأمة، يكون وقاية لها من الوقوع أو الاقتراب مما يوجب التنازع، إذا كان القرآن هو دستور المسلمين سادت معاني الأخوة والإيثار، ويحب كل مسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، ولعمت الأمة مساعي الإصلاح بين الأخوة المتخاصمين أو المتنازعين.
لقد طال عهد التنازع والتشرذم بين المسلمين، وقد آن الأوان أن تعود اللحمة لهم من جديد ليعودوا لقوتهم بالوحدة والأخوة، آن الأوان ليتدخل العقلاء لإعادة الأمة لسالف عهدها لتتبوأ مكانتها، وتحمل رسالتها المنوطة بها التي هيأها لها رب العالمين بما تحمله من رسالة.
___________________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 72).
(2) الأمثال لابن سلام، ص148.
(3) المحرر الوجيز (1/ 198).