عرفنا في المقالات السابقة أهمية النية والإخلاص وآداب التلاوة وأهمية فهم القرآن وتدبّره، وفي هذا المقال نتحدث عن أهمية العمل بالقرآن.
العمل بالقرآن هو عملك بعلمك الذي تعلمته من كتاب الله تعالى، وهو ما ستُسأل عنه يوم القيامة؛ «وعن علمه ماذا عمل به؟»، وما مراد الله من إنزال كتابه إلا أن يعمل الناس به؟!
ونستطيع القول: إن العمل بالقرآن هو تحقيق هذا المراد على أرض الواقع، والناس مختلفون في استقبالهم لآيات القرآن، فالكتاب واحد، لكن تعامل الناس معه يتباين تبايناً عظيماً، كما جاء في الحديث: «إن المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب»، ما معنى هذا؟ معناه أن هذا المؤمن حلو المظهر والمخبر معاً، ظاهره كباطنه، وسره كعلانيته، ومعاملاته مع الناس حسنة، وعبادته مع الله حسنة؛ لذا فهو طيب الريح والطعم.
أفضلية حامل القرآن في أنه يعمل بما حفظ فمن عمل به ولم يكن حافظاً فهو خير ممن حفظه ولم يعمل به
وأما المؤمن الذي لا يقرأ القرآن فهو كالتمرة التي لا ريح لها لكن طعمها حلو، فما معنى هذا؟ معناه أنه حسن الباطن، أما ظاهره فلا هو حلو ولا هو مُر، فلا ينجذب الناس إليه ولا يتأثرون بإيمانه الناقص، فهو أقل درجة من الأول الأترجة.
وأما المنافق الذي يقرأ القرآن فهو كالريحانة، ريحها طيب فتجده طيب السمعة، فإذا عاملته وجدته مراً علقماً، لسانه يقول للناس: اهتدوا، وأفعاله تقول: لا تهتدوا، مظهر جميل مع باطن خبيث، وعلمٌ غزير مع قلب من التقوى فقير.
وأما المنافق الذي لا يقرأ القرآن فهو كالحنظلة، لا ريح لها، وطعمها مر؛ فهو خبيث في نفسه غير نافع لغيره.
أفضلية حامل القرآن عند الله بعمله لا بحفظه
إن حرص سلفنا الصالح على العمل بالقرآن كان أوضح ما يكون عند تعليمهم غيرهم لكتاب الله وإقرائهم له، قال عطاء ابن السائب: أقرأني أبو عبدالرحمن السلمي القرآن، وكان إذا أَقْرَأَ أحدنا القرآن قال: أخذتَ علمَ اللهِ فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بالعمل.
إن أفضلية حامل القرآن في أنه يعمل بما حفظ، فمن عمل بالقرآن ولم يكن حافظاً فهو خير ممن حفظه ولم يعمل به، هكذا كان فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن رجلاً أتى إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال له أبو الدرداء: اللهم غُفراً، إنما جمعَ القرآن من سمع له وأطاع، لاحظ قوله: «سمع له وأطاع»، فهذا تعريف أبي الدرداء لمن جمع حفظ القرآن، غير هذا ليس بحافظ ولو حفظ القرآن كله عن ظهر قلب.
الانتفاع بالكتاب لا يكون إلا بالعمل بما جاء فيه فما قيمة كتاب تزيّنه ثم تضرب بأوامره عرض الحائط؟!
ولنا في أهل الكتاب أوضح أنموذج لهذه الحقيقة، وحتى نفهم أهمية العمل بالقرآن، عرض القرآن والأحاديث أنموذج أهل الكتاب في تناولهم لكتب أنبيائهم، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلّم أصحابه القرآن أن يقص عليهم خبر أهل الكتاب الذين قرؤوه ولم يعملوا به، ورتلوه ولم ينفذوا، وزينوا كتبهم بألوان الزينة ثم رموا بها وراء ظهورهم كحال كثير من المسلمين اليوم.
روى أحمد، وابن ماجه، عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً: فقال: «ذاك عند أوان ذهاب العلم»، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرِئُه أبناءَنا ويقرِئُه أبناؤنا أبناءَهم إلى يوم القيامة؟ فقال: «ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة! أوَلَيْس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!».
فالانتفاع بالكتاب لا يكون إلا بالعمل بما جاء فيه، وما قيمة كتاب تزينه وتعتني بطباعته وتجمل ألوانه وكلماته بأحلى الخطوط وأفخر الطبعات ثم تضرب بأوامره عرض الحائط مخالفاً ما جاء فيه من أوامر ونواهٍ؛ قال الله تعالى: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 101)، أتدري كيف هذا النبذ؟ وهل كان حسياً أم معنوياً؟
قال أبو محمد سفيان بن عيينة: أدرَجوها -أي التوراة- في الحرير والديباج، وحلّوها بالذهب والفضة، ولم يعملوا بها؛ فذلك نبذهم لها، بل ونعتهم الله في كتابه بأبشع صفة وهي «الأمية»؛ ومعناها الإغراق في الجهل وعدم معرفة القراءة والكتابة؛ كما في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (البقرة: 78)، فهل كانوا كذلك فعلاً؟ والجواب: كلا، بل كانوا يقرؤون ويكتبون، لكنها تلاوة بغير عمل، فهل هذه قراءة؟ وهل يقال لصاحبها: «قارئ»؟! كلا، بل هو أُمِّي.
الحسن: نزل القرآن ليُعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً فكان ذم أهل الكتاب تحذيراً للأمة أن تسلك نفس الطريق
قال ابن تيمية وهو يخرج من خصوصية السبب إلى عموم اللفظ ويستلم الإشارة القرآنية التي لا يخطئها قلب مؤمن من وراء ذم أمية أهل الكتاب: هذه صفةُ من لا يفقه كلام الله ولا يعمل به، وإنما يقتصر على مجرد تلاوته، كما قال الحسن: نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، فكان ذم أهل الكتاب تحذيراً لهذه الأمة أن تسلك نفس الطريق فتتعرض لنفس الذم، والمراد: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وقد عرض القرآن كذلك الجانب الآخر من سلوك بعض أهل الكتاب وهو الجانب الإيجابي فقال عز وجل: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 121)؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه.