تعد لغتنا العربية واحدة من أعرق اللغات في العالم، وتتمتع بمكانة عظيمة باعتبارها لغة القرآن الكريم، والوعاء الذي حمل رسالة الإسلام إلى العالم، كما أنها تمثل تراثًا ثقافيًا غنيًا يعكس تاريخًا طويلًا من الإبداع في مجالات الطب، والفلك، والأدب، والفلسفة، والفن، وشتى العلوم والمعارف، وهي انطلاقًا من هذه العراقة والمكانة، تمثل أحد الأعمدة الأساسية للحفاظ على الهوية الثقافية العربية والإسلامية في مواجهة التحديات العالمية المعاصرة.
وأصبحت اللغة العربية في العصر الرقمي تواجه تحديات كبيرة تستدعي من مجتمعاتنا العربية والإسلامية اهتمامًا عاجلًا، إذ هيمنت اللغات الأجنبية، خصوصًا الإنجليزية، على الفضاء الرقمي؛ ما أدى إلى تهميش المحتوى العربي وضعف تأثيره، كما طرح التطور التكنولوجي السريع وتزايد استخدام الذكاء الاصطناعي تحديات تتعلق بتطوير أدوات لغوية تدعم اللغة العربية بشكل كافٍ، مثل الترجمة الآلية، والتعرف الصوتي، ومعالجة النصوص، بالإضافة إلى الانقسام بين الفصحى واللهجات المحلية، الذي يعقد جهود إحياء اللغة العربية في هذا السياق الرقمي.
واقع اللغة العربية في الفضاء الرقمي
وعلى الرغم من مكانة اللغة العربية كواحدة من أكثر اللغات تحدثاً في العالم، فإن حضورها في الفضاء الرقمي لا يزال محدوداً مقارنة بلغات أخرى، إذ تشير الإحصاءات إلى أن المحتوى الرقمي العربي يمثل حوالي 3% فقط من إجمالي المحتوى على الإنترنت، بينما يتحدث العربية أكثر من 400 مليون شخص؛ ما يعكس فجوة كبيرة بين الاحتياجات والموارد المتوفرة على الشبكة الرقمية.
وتحاول بعض الدول العربية توسيع نطاق المحتوى العربي، وتحسين جودته، مثل الإمارات والسعودية اللتين قادتا مبادرات مثل «برنامج الملك عبد الله للترجمة» و«مبادرة محمد بن راشد للغة العربية»، كما تشهد بعض المواقع والمنصات نمواً ملحوظاً في إنتاج المحتوى العربي، لكن التحديات التقنية واللوجستية لا تزال تعيق التطور المطلوب.
ويتكرر في الدراسات الحديثة أن إحدى أبرز العقبات التي تواجه اللغة العربية في العصر الرقمي تكمن في ضعف الموارد التقنية، مثل محركات البحث التي تدعم اللغة العربية بشكل فعّال، بالإضافة إلى نقص قواعد البيانات اللغوية التي تتيح معالجة تنوع اللهجات، كما أن هيمنة اللهجات المحلية على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب النفوذ المتزايد للغات الأجنبية مثل الإنجليزية، تؤثر سلبًا على استخدام اللغة العربية الفصحى.
وأدت هذه التحديات المختلفة والمتنوعة إلى تراجع الاهتمام بالعربية الفصحى، التي يستدعي مجابهتها إطلاق مبادرات تعليمية وثقافية تهدف إلى إحياء الفصحى، سواء في الخطاب اليومي أو في الفضاء الرقمي، وتضافر الجهود لتطوير تقنيات لغوية تدعم اللغة العربية وتعزز حضورها في المجالات المختلفة.
أهمية الإحياء في العالم الرقمي
ولا شك أن ما وصلت إليه حال اللغة العربية يبرز الحاجة الملحة لإحيائها في العالم الرقمي، الذي يحمل أهمية بالغة تنبع من دورها في تعزيز الهوية الثقافية والحضارية، وربط الأجيال الجديدة بتراثهم، ودعم التعليم الرقمي باللغة العربية، حتى تستعيد مكانتها كمحرك للهوية الثقافية ورافد للتقدم العلمي والمعرفي في العالم الرقمي.
وإحياء اللغة العربية في العصر الرقمي بوصفها ركيزة أساسية للهوية الثقافية والحضارية يعزز التراث العربي والإسلامي، ويسهم في تمكين الأجيال الناشئة من التواصل مع تاريخهم بشكل معاصر؛ لذا، من الأهمية بمكان أن توفر منصاتنا الرقمية العربية محتوى ثقافيًا وتعليميًا يعزز الفخر والانتماء، وأن تسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي والترجمة في دعم هذا التحول، علاوة على استخدام اللغة العربية في التعليم الرقمي بما يسهم في تحسين جودة التعليم وتيسير الوصول إلى المعرفة لشباب أمتنا بلغتهم الأم.
وسائل التعزيز في الفضاء الرقمي
وانطلاقًا من أهمية إحياء اللغة العربية في الفضاء الرقمي، يتطلب تعزيز مكانتها، وفقًا لما اتفق عليه العديد من الخبراء والدراسات البحثية المتصلة، جهودًا متكاملة في عدة مجالات؛ أولها: تطوير التقنيات اللغوية مثل الترجمة الآلية والتعرف الصوتي بما يعزز من استخدامها في البيئة الرقمية، كما تعمل مبادرات مثل «سدايا» في السعودية على تحسين الذكاء الاصطناعي لخدمة اللغة العربية.
وثانيها: إثراء المحتوى العربي من خلال إنتاج محتوى علمي وأدبي وتعليمي عالي الجودة يسهم في تحسين تمثيل العربية على الإنترنت، وثالثها: تعزيز الوعي المجتمعي عبر حملات توعية تشجع على استخدام العربية الفصحى في وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيرًا: تفعيل الدور الحيوي للمؤسسات التعليمية والإعلامية في ترسيخ استخدام اللغة العربية عبر توفير محتوى رقمي متميز.
«العربيزي» و«الفرانكو».. وتحديات إحياء الفصحى
وتواجه جهود إحياء اللغة العربية في العالم الرقمي مجموعة من التحديات الرئيسة التي تعرقل انتشارها وتطورها بشكل يتناسب مع مكانتها الثقافية والتاريخية، أبرزها:
1- ضعف الاستثمار في التقنيات اللغوية: إذ يعاني عالمنا العربي من نقص الدعم المالي لتطوير أدوات مثل الترجمة الآلية، والتعرف الصوتي، ومعالجة اللغة الطبيعية؛ ما يعيق تعزيز حضور اللغة العربية في الفضاء الرقمي.
2- قلة التعاون بين الجهات الحكومية والخاصة: غياب التنسيق الفعال بين المؤسسات الحكومية، والقطاع الخاص، والجامعات؛ يعيق بناء بنية تحتية رقمية متكاملة لدعم اللغة العربية؛ ما يؤدي إلى تكرار الجهود وعدم تحقيق التكامل المطلوب.
3- هيمنة اللغة الإنجليزية على المحتوى الرقمي: تهيمن اللغة الإنجليزية على معظم المنصات الرقمية؛ ما يقلل من تأثير المحتوى العربي ويُشجع المستخدمين على استخدام «العربيزي» أو «الفرانكو» بدلاً من العربية الفصحى.
وتستدعي هذه التحديات ضرورة تعزيز الشراكات بين الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والشركات التقنية لتطوير حلول مبتكرة ودعم المحتوى العربي الرقمي عالي الجودة، بالإضافة إلى إطلاق حملات توعوية تعزز استخدام اللغة العربية الفصحى في الفضاء الرقمي.
محاولات ناجحة
شهدت السنوات الأخيرة مشاريع ومبادرات، مثلت بصيص أمل لإحياء اللغة العربية في الفضاء الرقمي، منها منصة «مدرسة» التعليمية التي أنتجت أكثر من 1000 فيديو تعليمي، متجاوزة حاجز 14 مليون مشاهدة.
كما حاولت مبادرة «بالعربي» ممارسة دور في تحسين جودة المحتوى العربي الرقمي وتشجيع المستخدمين على التفاعل باللغة العربية على منصات التواصل الاجتماعي، أيضًا سعت «مؤسسة قطر»، من خلال برامجها التعليمية والإعلامية المتعددة، إلى المساهمة في دعم اللغة العربية وتوفير بيئة رقمية محفزة لاستخدامها.
رؤية مستقبلية
إجمالاً، يمكن تحقيق رؤية مستقبلية لإحياء اللغة العربية رقميًا من خلال إستراتيجيات تجمع بين تطوير التقنيات وخلق بيئة تشجع على استخدام اللغة عبر جميع الوسائط الرقمية، مع ضرورة تكامل جهود الحكومات والشركات التقنية لدعم هذه المبادرات، وهو ما أشارت إليه دراسات متعددة حول أهمية تفعيل الذكاء الاصطناعي لدعم هذا الهدف.
إن اللغة العربية قادرة على التفاعل مع التطورات الرقمية والتكنولوجيا الحديثة، ولكن هذا يتطلب التزامًا مستمرًا ومشاركة فعالة من جميع الأطراف، كما يتعين علينا أن نحرص على تقديم المحتوى العربي عالي الجودة في مختلف المجالات العلمية، التعليمية، والثقافية.
وفي نهاية المطاف، فإن إحياء اللغة العربية في الفضاء الرقمي ليس مجرد هدف تقني، بل هو حماية لهويتنا الثقافية وسبيلنا للاستمرار في المشاركة الفاعلة في العالم الرقمي المعاصر.