في 8 ديسمبر 2024م، شهدت سورية يوماً تاريخياً مع سقوط نظام بشار الأسد، واستيلاء فصائل المعارضة على مناطق واسعة من البلاد؛ ما أسفر عن تحرير الآلاف من المعتقلين، ومع هذا الحدث، تكشفت حقائق مروعة عن الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري طوال سنوات حكمه، وشهادات الناجين كشفت وحشية غير مسبوقة، وسردت فصولاً سوداء عن التعذيب والإعدام الجماعي الذي طال مئات الآلاف من الأبرياء.
من بين تلك المشاهد المؤلمة، برز تعليق لأحد السجناء الناجين من جحيم سجن «صيدنايا»، المعروف بسمعته السيئة، حيث قال: «الآن نحن في وسط دمشق، أقسم بالله أن إعدامنا مع 54 شخصاً آخرين كان مقرراً اليوم قبل نصف ساعة.. الحمد لله»، هذا التصريح جاء بعد إسقاط نظام الأسد على يد المعارضة وإطلاق سراح المعتقلين.
شهادات الناجين تكشف وحشية النظام السوري.. تعذيب وإعدام جماعي
لكن ما خطف الأنظار حقاً كان مشهد طفل صغير، لا يتجاوز عمره 3 سنوات، يخرج من إحدى الزنازين مذهولاً، بينما يسأل أحد عناصر المعارضة بذهول: «من هذا الطفل؟! لا حول ولا قوة إلا بالله»، سرعان ما ظهرت سيدة، على ما يبدو أنها والدته، لتمسك بيديه في مشهد يعجز الوصف عن استيعابه!
مآسي المعتقلين السوريين تتجاوز حدود التصور، قصص لا تُصدَّق أشبه بروايات خيالية عن أشخاص اختفوا لسنوات وعادوا بعد غياب طويل، في إحدى هذه القصص المؤثرة، استيقظ الأردنيون على خبر عودة أسامة البطاينة، المواطن الأردني الذي اختفى قبل 38 عاماً عندما كان يبلغ من العمر 18 عاماً، عاد فاقداً للذاكرة بعد عقود أمضاها في المعتقلات السورية، وتحديداً في سجن «صيدنايا».
فظائع الاختفاء القسري
كشف تقرير حقوقي سوري(1)، في أغسطس 2024م، عن حقائق صادمة حول ملف المخفيين قسراً في سورية خلال حكم نظام بشار الأسد، وأظهر التقرير أن عدد المخفيين المسجلين بلغ 96321 شخصاً، بينهم 2329 طفلاً، و5742 سيدة، اختفوا قسراً على يد قوات النظام، وأشار التقرير إلى أن ما لا يقل عن 85% من هؤلاء المخفيين قُتلوا تحت التعذيب، وفق تقديرات الشبك؛ ما يعكس حجم الانتهاكات التي ارتُكبت.
أردني يعود إلى بلاده فاقداً للذاكرة بعد 38 عاماً في سجون الأسد
كما وثّقت الشبكة وفاة 1634 شخصاً من المخفيين قسراً، بينهم 24 طفلاً، و21 سيدة، و16 من الكوادر الطبية، تم تسجيلهم كمتوفين في دوائر السجل المدني منذ عام 2018 وحتى أغسطس 2024م، وأكد التقرير أن ظاهرة الاختفاء القسري تفاقمت منذ اندلاع الحراك الشعبي في مارس 2011م، حيث أصبحت أداة إستراتيجية للنظام السوري لتعزيز سيطرته والقضاء على معارضيه.
وأكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبدالغني وجود سجنين سريين على الأقل غير معروفين في سورية(2)، مشيراً إلى أن عدد معتقلي سجن «صيدنايا» وحده يُقدر بنحو 11 ألفاً، خرج منهم حوالي ألفي شخص فقط، كما فرّق عبدالغني بين المخفيين قسراً والمعتقلين، موضحاً أن عدد المعتقلين في السجون السورية يبلغ نحو 140 ألفاً، وهم منفصلون عن المخفيين قسراً الذين يُقدر عددهم بما لا يقل عن 100 ألف.
ومن سجن «صيدنايا» إلى سجن «تدمر»، ومن سجن «المزة» إلى سجن «حلب»، كانت السجون السورية بمثابة مراكز قمع لا تعرف الرحمة، فبعد الثورة السورية، تم توثيق مئات الآلاف من حالات الاعتقال التعسفي والتعذيب الممنهج، بالإضافة إلى عشرات السجون السرية التي كانت تستخدمها أجهزة النظام للاحتجاز السري والإعدام خارج القانون.
الشبكة السورية لحقوق الإنسان: 96321 اختفوا قسراً في عهد الأسد
في عام 2012م، وثقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» ما يزيد على 20 طريقة مختلفة للتعذيب تستخدم في أقبية التعذيب السورية، تشمل الضرب المبرح واللكم والركل لفترات طويلة، والضرب بالأسلاك والسياط والعصي والمواسير، وتثبيت المعتقلين في أوضاع مؤلمة أو مجهدة لمدد طويلة، باستخدام أدوات خاصة في أحيان كثيرة، والاعتداء الجنسي والإذلال، وانتزاع الأظافر، والإعدام الوهمي، والصعق، والتعليق مع قلب الرأس إلى أسفل، ونتف اللحية، واستخدام الأحماض لحرق الجلد، وغيرها من الأساليب الممنهجة(3).
«صيدنايا».. المسلخ البشري!
ويعتبر سجن «صيدنايا» أحد أكثر الأماكن سرية في سورية، حيث بثّ اسمه الرعب في نفوس السوريين، فقد تأسس السجن في الثمانينيات، وأطلقت عليه منظمة العفو الدولية وصف «المسلخ البشري»! والسجن الذي «تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء»! وهو يقع على تلة صغيرة بالقرب من بلدة صيدنايا الجبلية، شمال دمشق، ويتألف من بناءين رئيسين: القديم (البناء الأحمر)، والجديد (البناء الأبيض)، تقدر مساحته بـ1.4 كيلومتر مربع.
في أكتوبر 2022م، أصدرت «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» تقريراً(4) كشفت فيه تفاصيل دقيقة عن سجن «صيدنايا»، مستندة إلى شهادات من موظفين منشقين ومعتقلين سابقين، وبين التقرير كيفية تنفيذ عمليات التعذيب والقتل الممنهج في السجن، التي ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، حيث لقي ما لا يقل عن 30 ألف معتقل حتفهم بين عامي 2011 و2018م.
وسلط التقرير الضوء على إنشاء ما يُسمى بـ«غرف الملح»، وهي أماكن خُصصت لحفظ جثث المعتقلين الذين قضوا نتيجة التعذيب أو الجوع، لحين نقلها إلى مستشفى تشرين العسكري، ويعتقد أنه بين عامي 2018 و2021م، أعدم النظام السوري ما لا يقل عن 500 معتقل إضافي، وفقاً لشهادات ناجين وثقتها الرابطة.
تقرير حقوقي يكشف: 85% من المخفيين قسراً قُتلوا تحت التعذيب
كما يكشف التقرير عن التدابير الأمنية المشددة في سجن صيدنايا، حيث يتم تأمينه بـ3 مستويات أمنية، تضم مئات الحراس المتمركزين في مواقع متعددة داخل السجن، والجدران الخارجية للسجن يحميها موظفو سجن الشرطة العسكرية (المعروفة بالشركة الخارجية)، والفرقة الثالثة للجيش السوري، الذين يشكلون الخط الدفاعي الأول ضد أي تهديدات خارجية أو محاولات هروب.
وبحسب التقرير، يقوم نحو 40 – 50 فرداً من «اللواء 21» التابع للفرقة الثالثة بتأمين محيط السجن بين الجدران الداخلية والخارجية، في حين تتولى وحدات منفصلة مسؤولية تأمين الجزء الداخلي من السجن، ومراقبة المعتقلين وضمان تأديبهم، كما يحيط بالسجن حقلا ألغام؛ أحدهما داخلي يحتوي على ألغام مضادة للأفراد، والآخر خارجي يحتوي على ألغام مضادة للدبابات.
ويضيف التقرير أن هناك وحدة خاصة مكلفة بمراقبة جميع الاتصالات الأرضية واللاسلكية الصادرة والواردة إلى السجن والمنطقة المحيطة به، وكذلك جميع الاتصالات اللاسلكية القريبة، أما بالنسبة لجثث المعتقلين الذين يُعدمون، فيشير التقرير إلى أنه يتم نقلها في شاحنات تبريد مخصصة لحفظ اللحوم، حيث تُدفن في مقابر جماعية بعد أن يتم فحصها في مستشفى تشرين العسكري وإصدار شهادة وفاة.
«تدمر».. تاريخ دموي
يقع سجن «تدمر» قرب مدينة تدمر الصحراوية، وقد شيّده الفرنسيون، وعلى مدار حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار، اشتهر السجن بارتكاب مجازر وحشية وعمليات تعذيب قاسية بحق المعتقلين، وبحسب تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش»، تم اعتقال نحو 2500 شخص بالسجن، في ديسمبر 2011م، كما شهد واحدة من أبشع المجازر في تاريخ النظام السوري، في 27 يونيو 1980م، حيث أودت بحياة مئات السجناء، وكان أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين المعارضة(5).
«رايتس ووتش» تفضح أساليب التعذيب بالسجون السورية.. 20 طريقة وحشية
وفي عام 2001م، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً وصفت فيه السجن بأنه «مصمم لإنزال أكبر قدر من المعاناة والإذلال والخوف بالنزلاء»(6).
«المزة».. قلعة للقمع السياسي
يقع سجن «المزة» على هضبة مرتفعة قرب الجبل الذي بُني عليه قصر الشعب في دمشق، وتأسس عام 1923م من قبل الفرنسيين على أنقاض قلعة عثمانية، ويعد واحداً من أخطر السجون السورية التي يزج بها معظم المعارضين، من سياسيين وعسكريين ونشطاء ومثقفين، دخله العديد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، وفي 13 سبتمبر 2000م، أعلنت السلطات السورية عن إغلاق السجن ونقل نزلائه إلى أماكن أخرى، مدعية أنه سيُحوّل إلى معهد للتاريخ أو متحف.
«عدرا».. معاناة للنساء
يقع سجن «عدرا» في مدينة عدرا بمحافظة ريف دمشق، شهد العديد من الإضرابات احتجاجاً على ظروف الاعتقال السيئة، حيث تتعرض فيه المعتقلات السياسيّات لظروف قاسية مشابهة لتلك التي يعاني منها الرجال، بما في ذلك الإهانة، والضرب، والتعذيب، وحتى الاغتصاب(7).
سجن فرع المخابرات الجوية
يعد سجن «فرع المخابرات الجوية» ضمن أحد أكثر المواقع رهبة في دمشق، يقع في مطار المزة العسكري، حيث يضم ما لا يقل عن 3 مراكز اعتقال.
ويصف معتقلون سابقون أحد هذه المراكز، الذي يُعتقد أنه مبنى مخصص للتحقيقات، بأنه مبنى أبيض كبير ومسطّح من طابق واحد، تحيطه أسلاك شائكة، يتكون من طابقين تحت الأرض، يتميزان بسقوف منخفضة، ويحتوي الطابق الأول على زنازين جماعية، في حين يضم الطابق الثاني 12 زنزانة انفرادية على الأقل وحجرة كبيرة تُستخدم لأغراض التعذيب.
ووفقاً لشهادات معتقلين سابقين ومنشقين، يُجمع المعتقلون عادة في فناء السجن قبل نقلهم إلى الزنازين، ويُذكر أن هذا الفناء نفسه يُستخدم للتعذيب(8).
_____________________
(1) الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
(2) مقابلة مع «التلفزيون العربي».
(3) أقبية التعذيب.. الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري في مراكز الاعتقال السورية منذ مارس 2011م، هيومن رايتس ووتش.
(4) الهيكلية الإدارية لسجن صيدنايا وعلاقاته التنظيمية، رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا (ADMSP).
(5) سجون الأسد.. جحيم يتمنى فيه المعذبون الموت، الجزيرة نت.
(6) Syria: Torture, despair and dehumanisation in Tadmur Military Prison، Amnesty International.
(7) «المسالخ البشرية» في سورية: سجون الأسد الرسمية، العربي الجديد.
(8) أقبية التعذيب.. الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري في مراكز الاعتقال السورية منذ مارس 2011م، هيومن رايتس ووتش.