بدأنا في المقالة السابقة حديثنا عن أهمية العمل بالقرآن، ورأينا كيف أن أفضلية حامل القرآن عند الله بعمله لا بحفظه، وفي هذه المقالة نعرض كيف أن العاملين بالقرآن هم أشرف الناس في كل طائفة، وأن عدم العمل بالقرآن فخ شيطاني، وكيف كان علماؤنا يفحصون الآيات جيداً ليستخرجوا منها واجباً عملياً يحقق مراد الآية.
أولاً: أهل العمل أشرف الناس في كل طائفة:
لو عمل أهل القرآن بما جاء فيه لصار أحدهم أشرف الناس في كل طائفة، ولكانوا أعظم المجاهدين أجراً، وأعظم الصابرين أجراً، وأعظم المتصدقين أجراً.
وقد جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد، والشوكاني في كتابه «تحفة الذاكرين»، أن أفضل أفراد كل طائفة هم أكثرهم لله ذكراً، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أعظم أجراً؟ فقال: «أكثرهم لله ذكراً»، ثم سئل: فأي الصائمين أعظم أجراً؟ فقال: «أكثرهم لله ذكراً»، ثم سئل: أي الحُجاج أعظم أجراً؟ فقال: «أكثرهم لله ذكراً».
لو عمل أهل القرآن بما جاء فيه لصار أحدهم أشرف الناس في كل طائفة
ومعلوم أن أشرف الذكر القرآن الكريم، وأفضلية حامل القرآن ليست بسبب حفظه له باللسان، بل لرعايته له بالأعمال والأحوال، ولذا لما قيل لسالم مولى أبي حذيفة في معركة «اليمامة»: نخشى أن نؤتى من قِبَلِك! قال: فبئس حامل القرآن إذاً إن أوتيتم من قِبَلي، ولم يبرح مكانه حتى استشهد مقبلاً غير مدبر، وهكذا فعلت كتيبة القرَّاء، هذا هو حامل القرآن بحق، يتقدم الصفوف ويسبق غيره، وكيف لا وهو يحمل أشرف الكلام ويعمل به؟!
ثانياً: عدم العمل بالقرآن فخ شيطاني:
إن أخطر ما يتهدد حامل القرآن اليوم أن يتحول القرآن عنده إلى محفوظات وأوراد لا ينبني عليها عمل ولا تغييرات، كما لاحظ ذلك الحسن البصري في أجيال التابعين فقال لهم: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه تقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يقرؤونها بالليل وينفذونها بالنهار.
لا يعيب عليهم البصري أنهم يقرؤون القرآن، وأنهم جعلوا لأنفسهم أوراداً ثابتة ولا يقصرون فيها؛ فهذا لا شك محمود ويؤجر عليه صاحبه، لكن يعيب عليهم أنهم لا يُتْبعون القراءة بالعمل، وكأنهم أقماع قول يدخل القرآن في أذنهم اليمنى ليخرج من الأذن اليسرى دون أن يعلق في قلوبهم منه شيء!
أخطر ما يتهدد حامل القرآن أن يتحول عنده إلى أوراد لا ينبني عليها عمل
إن كلام مديرك في العمل أو أميرك أو رئيسك أراك تتلقاه بشكل مختلف عن كلام رب العالمين، فتحرص على التأكد من فهم تعليماته جيداً، ثم تنفيذ ما تلقيته بكل دقة، وذلك طمعاً في ترقية مرتقبة أو زيادة راتب، فأين هذا من حالك مع أوامر الله؟! مع أن ترقيتك في درجات الجنة مرهونة بعملك بما جاء في كتاب الله، وزيادة ثوابك بحسب تدبرك معاني آياته، فأيهما أحق بالاهتمام وأَوْلى بالعمل؟!
ثالثاً: مثَل الآية كالتمرة:
مثل القارئ المتدبر لما يقرأ من آيات الله بقصد العمل بها كمن يمص التمرة الحلوة مصاً، يستمتع بطعمها، ويفيد منها، وكذلك قارئ الآية؛ كلما تدبرها وكررها وتأمل فيها استخرج منها حلاوتها؛ وهو فتح آفاق العمل بها، وكلما تأنَّى القارئ ولم يستعجل فهم منها فهماً جديداً قاده لعمل جديد؛ فتكون قراءة مباركة؛ إذ تغيّر سلوكه، وتصحّح عمله، وتضيف له رصيداً في قائمة أعماله لا مجرد قائمة ادعاءاته وأقواله.
وإليك بعض آيات القرآن، وكيف نربطها بالعمل بصورة مباشرة إن كانت أمراً أو نهياً، أو بصورة غير مباشرة، وهي آيات تكشف لك كيف كان علماؤنا يفحصون الآيات جيداً ليستخرجوا منها واجباً عملياً يحقق مراد الآية، ويجعل القرآن حجة لصاحبه بدلاً من أن يكون حجة عليه:
1- قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) (الصافات: 22)، افحص هذه الآية جيداً واسأل نفسك: ما المراد بقوله: (وَأَزْوَاجَهُمْ)؟ قال قتادة، والكلبي: كل من عمل مثل عملهم، فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنى مع أهل الزنى.
وبعد الفحص الجيد، يأتي العمل اللازم؛ وهو مفارقة أهل العصيان مفارقة عملية بالإقلاع عن مثل ما وقعوا فيه من ذنوب، ومفارقة بدنية بعدم لقائهم في مجالس عصيانهم، ومفارقة قلبية بعدم مودتهم والركون إليهم، ومفارقة مظهرية بهجر كلماتهم وعدم التشبه بأفعالهم ولو كان على سبيل المزاح، وبذا تخرج الآية إلى آفاق واسعة رحبة من العمل بدل حصرها في معنى محدد وطائفة معينة.
كلما تأنَّى القارئ فهم معنى جديداً قاده لعملٍ فيتغيّر سلوكه ويصحّح عمله
2- قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) (المؤمنون: 29)، كيف فحص الإمام القرطبي هذه الآية؟ وكيف استخرج منها واجباً عملياً؟ قال: وبالجملة، فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا، بل وإذا دخلوا بيوتهم.
هذا تأمل الإمام القرطبي، فهل بقي بعد تأمله شيء؟ نعم.. بقي الكثير، بقي أن تسأل نفسك عند كل مكان تنزل فيه؟ هل هذا منزل يرضي الله تعالى؟ وكيف أحقق مفهوم البركة في هذا المكان الجديد؟ البركة الزيادة.. فكيف أستزيد من الخير في هذا المكان؟ أم كيف أزيد في خيرية هذا المكان وأهله مهما قلَّ هذا الخير؟ فالله قادر على أن يبارك في القليل فيكون كثيراً.
3- قال تعالى: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) (الكهف: 80)، ماذا تورثني هذه الآية من العمل؟ هذه الآية لو فحصتها جيداً وتأملت فيها لأورثتك عملاً قلبياً جليلاً؛ وهو الرضا بقضاء الله تعالى؛ كما شرح ذلك قتادة في قوله: لقد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قُتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، ثم قال موجهاً الخطاب إلى كل من أراد العمل بالقرآن: فليرض امرؤٌ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
ولاحِظ أن الأعمال القلبية أهم وأخطر؛ لأنها هي التي تتحكم في أعمال الجوارح، والقلبُ محل نظر الله سبحانه، فانظر ماذا خالط قلبك.