عَنِ عبدالله بْن مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ «بَدْرٍ» كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا حَانَتْ عُقْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا: ارْكَبْ حَتَّى نَمْشِي، فَيَقُولُ: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي، وَلَا أَنَا أَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا» (رواه أحمد)،
في هذا الحديث تأكيد على مراعاة حقوق الزملاء وعدم تجاوزها أو التعدي عليها، وقد حرص الإسلام على إقامة العلاقات الحسنة بين الناس، فدعا إلى بنائها، وجعل لها حقوقاً تسهم في حمايتها وصيانتها، ومن هذه العلاقات الزمالة.
والزمالة هي علاقة عابرة ناتجة عن عمل مشترك، وهي أنواع متعددة، منها: زمالة العمل، وزمالة الدراسة، وزمالة الطفولة، وزمالة السفر، وزمالة اللعب.. وغيرها من العلاقات العابرة، وتتسم بأنها قصيرة في وقتها، مفروضة على أصحابها، يسود التنافس بين أفرادها.
والزمالة علاقة جميلة تحمل بين طياتها معاني نبيلة، وهي نعمة جليلة لا يعرف روعتها إلا من استمتع بها وسعى إلى استمرارها ونمائها، ولا يعرف خسرانها إلا من فقدها وحُرم جمالها.
اهتمام الإسلام
اهتم الإسلام بإقامة علاقة الزمالة من أجل التعاون على فعل الخير، حيث قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وأوصى الله تعالى بالزمالة في قوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)؛ فالصاحب بالجنب: هو الزميل الذي أقيمت بيننا وبينه علاقة مكانية في زمان محدد، وقال الطبري: هو الرفيق في السفر.
ومما يبين أهمية العلاقة الحسنة مع الزملاء ما رواه الترمذي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ»، ويضاف إلى ذلك أننا سنُسأل عن هذه الصحبة أمام الله، فقد أخرج ابن جرير قوله: إن الله سائل أحدكم عن صحبة ساعة، وقيل: ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سئل عن صحبته، هل أقام فيها حق الله أو أضاعه.
ونتيجة لهذا الاهتمام شرع الإسلام لبناء علاقة الزمالة حقوقاً تسهم في بنائها وحمايتها.
حقوق تسهم في بناء علاقة الزمالة
أولاً: التعارف بين الزملاء، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، فالتعارف يزيل الوحشة، ويذهب الخوف من قلوب الناس، وهو كذلك يعرفنا بمقامات الناس، فنتعامل معهم بما يناسب قدرهم ويحفظ منازلهم، حيث أمرنا الإسلام أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم، وإذا حدث التعارف بين الزملاء فإنه ييسر اختيار الصديق الصالح إذا كان الزميل صالحاً، أو الحذر منه إذا كان زميلاً فاسداً أو عاصياً.
ثانياً: التواصل الجيد والمشاركة الوجدانية، ويتسم هذا التواصل بالتقدير والاحترام، والود والوئام، ويظهر ذلك في نداء الزميل بأحب الأسماء إليه، وعدم رفع الصوت عليه، والسؤال عنه إذا غاب، وزيارته إذا مرض ومساعدته إذا احتاج المساعدة، ومراعاة حاله ومشاركته فيه، إذا كان حزيناً نخفف عنه ونسليه، وإذا كان سعيداً نشاركه ونهنئه.
في صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ؛ رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ»، فهذه الحقوق كلها تدعو إلى التواصل الجيد والمشاركة الفاعلة بين الزملاء، وما أجمل المشاركة بين الزملاء، فهي تعطي للحياة روحاً جميلة، يدل عليها ما أورده ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق أن محمد بن المنذر قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ فَانْقَطَعَ شِسْعِي فَخَلَعَ نَعْلَهُ، فَقُلْتُ: مَا تَصَنْعُ؟ قَالَ: أُوَاسِيكَ فِي الْحَفَاءِ.
ثالثاً: التعاون بين الزملاء على البر والتقوى، فقد أمر الله تعالى به قائلاً: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، والتعاون بين الزملاء ييسر الصعوبات، ويذلل العقبات، ويحقق النجاح في المؤسسات.
رابعاً: القيام بواجب العمل وعدم التحميل على الزملاء، فلا يترك الزميل عمله لزملائه، ويتكل على ذلك، بل يقوم بواجبه، وقد يختار أصعب الواجبات، فإن رسول الله صلى الله عليه ضرب المثال في ذلك، ففي جامع المسانيد والسنن لابن كثير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة كي يأكلوها، فقال رجل: عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا عليّ جمع الحطب»، فقالوا: يا رسول الله، نكفيك العمل، فقال: «قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم»، فيجب على كل زميل أن يقوم بواجبه، وأن يحرص على عدم إرهاق زملائه بأعبائه التي كُلّف بها.
حقوق تسهم في حماية علاقة الزمالة
أولاً: صيانة العِشرة، فأفضل الطعام ما تحفظ به الأموال وتصان به الأعراض، ومن صيانة العشرة حفظ الأسرار بين الزملاء، وعدم الوشاية بهم، والتماس الأعذار لهم، ولهذا قيل: التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد فلعل له عذراً لا تعرفه.
ثانياً: التواضع للزملاء وعدم التكبر عليهم، فالزمالة يسودها التنافس، فإذا صحب التنافس الكبر والغرور فإن هذا مما يوغر الصدور، ويزرع الأحقاد والشرور، وفي هذا يروي الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا».
ثالثاً: الحذر من التدخل فيما لا يعنيك، روى ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، فلا يتدخل الزميل في شؤون زميله الشخصية أو أحواله العائلية، وإن كانت الزمالة بين رجل وامرأة فلا يتركا مجالاً للخلوة في مكان مغلق، فإن الشيطان ثالثهما، وليكن الحديث في حدود العمل، مع الحرص الشديد على الالتزام بالضوابط الشرعية في النظر والكلام.