يُعد تغلغل الحركة الصهيونية في دوائر صنع القرار الدولي من أكثر المواضيع المعقدة الذي يعكس تأثير القوى السياسية والفكرية على صعيد العلاقات الدولية، وما كان تأسيس الحركة الصهيونية كحركة أيديولوجية في أواخر القرن التاسع عشر إلا من أجل هذا الهدف الى جانب إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، فسعت بكل قوتها وإمكاناتها ووسائل دعمها الى إحداث تأثير كبير في دوائر صنع القرار الدولي، الذي تطور ليصل إلى مستويات كبيرة من النفوذ الذي نراه واقعاً اليوم سواء على مستوى الدول أو المنظمات الدولية والأممية الكبرى.
المنظمات الصهيونية ودورها في السياسة الدولية
منذ تأسيسها، بدأت المنظمات الصهيونية أوائل القرن العشرين في تكوين شبكة علاقات مع القوى الكبرى، وخاصة بريطانيا وفرنسا، ونجحت في اختراق دوائر صنع القرار والتأثير فيها، وكانت أبرز تلك المراحل فترة الحرب العالمية الأولى، حيث سعت الحركة الصهيونية للحصول على دعم بريطانيا لإنشاء «وطن قومي لليهود» في فلسطين، وكان لها ذلك في «وعد بلفور» عام 1917م، الذي اُعتبر دعماً مباشراً من بريطانيا للهدف الصهيوني، واستمرت في توظيف نفوذها السياسي والإعلامي، وهو ما ساعدها على تعزيز موقفها في العديد من الدول والمحافل الدولية.
على الرغم من أن اللوبي الصهيوني في أوروبا لا يتمتع بنفس القوة التي يمتلكها في الولايات المتحدة، فإن الحركة الصهيونية قد نجحت في تشكيل السياسات الأوروبية لصالحها، ففي بريطانيا على سبيل المثال، تحظى بعض المنظمات الصهيونية مثل «الاتحاد الصهيوني في بريطانيا» بنفوذ كبير في الأحزاب السياسية الكبرى.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، استطاعت الحركة الصهيونية أن تبني شبكة من العلاقات مع السياسيين والمفكرين، وأسست منظمة «أيباك» (اللجنة الأمريكية للشؤون العامة «الإسرائيلية») المعروفة باللوبي الصهيوني الكبير للتأثير على السياسة الأمريكية وصناع القرار الأمريكيين بما يتماشى مع مصالحها الصهيونية، سواء فيما يتعلق بتقديم الدعم العسكري أو في السياسات المتعلقة بإستراتيجية الأمن أو التأثير على السياسات الأمريكية لصالحها.
وهذا يشمل التأثير في الانتخابات، وتعزيز العلاقات العسكرية والاقتصادية بين البلدين، ودعم القرارات السياسية الأمريكية التي تتماشى مع المصلحة الصهيونية، وتشكيل خطاب إعلامي يعزز من صورتها؛ ما ساعد في حصولها على دعم قوي من الحكومات الأمريكية المتعاقبة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، والاعتراف بها في عام 1948م، على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه، كما عملت على بناء علاقات مع قطاعات اقتصادية ومؤسسات مالية كبرى؛ ما مكنها من التأثير في القرارات الاقتصادية الكبرى، ونتيجة الضغط الذي مارسته أصبح الدعم المالي والاستثماري الأمريكي لدولة الكيان جزءاً من سياسة الحكومة الأمريكية.
المنظمات الصهيونية وتأثيرها على المنظمات الدولية
على مستوى المنظمات الدولية، نجحت المنظمات الصهيونية في التأثير على مواقف الأمم المتحدة، حيث كان لها دور بارز في التمهيد لقرار تقسيم فلسطين عام 1947م، الذي أدى إلى إنشاء دولة الكيان المزعوم، واستمر التأثير والضغط على الأمم المتحدة لضمان استمرار دعمها على المستوى السياسي، وفيما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الصهيوني، تمكنت من التلاعب بالرأي العام الدولي عبر مراكز دراسات وعلاقات إعلامية واسعة، وقد سعت هذه المنظمات إلى تبييض صورة دولتهم وتعزيز الرواية الصهيونية في محافل الأمم المتحدة، متجاهلةً الحقوق الفلسطينية وتهميش القضية الفلسطينية في التقارير الدولية.
على الرغم من أن الأمم المتحدة تتبنى خطابًا رسميًا يركز على حقوق الإنسان، فإن المنظمات الصهيونية تعمل على التأثير في القرارات المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الصهيوني، وعادة ما تنجح جهود المنظمات الصهيونية في الضغط لتغيير مواقف بعض الدول الأعضاء لصالح دولتهم، فالعديد من القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة لصالح فلسطين، مثل قرارات مجلس الأمن التي تدين الاستيطان والانتهاكات ضد الفلسطينيين واجهت مقاومة شديدة من قبل الولايات المتحدة عبر «الفيتو» الأمريكي المتكرر، وبعض الدول الغربية التي تتمتع بعلاقات قوية معها، ويُعتقد أن هذا التأثير جزء من الجهود الكبيرة التي تبذلها هذه المنظمات لإضعاف قرارات الأمم المتحدة التي تنتقد دولتهم.
كما أن أحد الجوانب المهمة التي ساعدت في تعزيز نفوذ المنظمات الصهيونية قدرتها على بناء شبكات اقتصادية مؤثرة في المنظمات المالية الدولية، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، من خلال الاستثمار في هذه المؤسسات، ونجحت في ضمان تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى دولتهم، وتحفيز الدول الكبرى على تقديم المساعدات الاقتصادية لها في أوقات الأزمات، كما يحدث اليوم في حربها على مختلف الجبهات في غزة ولبنان وسورية والعراق واليمن.
ويعتبر التأثير في وسائل الإعلام العالمية إحدى الطرق المهمة التي تستخدمها المنظمات الصهيونية لتعزيز مصالحها في دوائر صنع القرار، من خلال شركات إعلامية ومؤسسات دراسات ومراكز أبحاث، وتشكيل الخطاب الإعلامي الدولي، لصالحهم وترويج روايتهم، وهذا يشمل توفير معلومات مختارة تركز على التهديدات الأمنية التي تواجهها، والتأكيد على حقها في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات، والتقليل من أهمية معاناة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
الانتقادات والتحديات المستقبلية
من المؤكد أن تأثير المنظمات الصهيونية في دوائر صنع القرار على المستوى الدولي والمنظمات الدولية يتجاوز الإطار الديمقراطي المشروع، ويؤثر بشكل غير متناسب في السياسات الحكومية، لأن هذا النفوذ والتغلغل يُقيد حرية التعبير حول القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ويقلل من المساءلة الدولية تجاه ممارسات الدولة الصهيونية في الأراضي المحتلة، ويؤدي إلى تحريف سياسات الدول والمنظمات الدولية بما يتناسب مع المصالح الصهيونية، بغض النظر عن العدالة أو القانون الدولي.
من المرجح أن يواجه النفوذ الصهيوني في دوائر صنع القرار تحديات كبيرة، مع تزايد الوعي بقضايا حقوق الإنسان في الوطن العربي، ومع تغيّر السياسات في بعض الدول الكبرى، قد تتغير الديناميكيات الدولية المرتبطة بالصراع الفلسطيني- الصهيوني، ومع استمرار هذه المنظمات الصهيونية في تعزيز نفوذها، في ظل تزايد المطالب الدولية بمزيد من العدالة والمساواة في التعامل مع الفلسطينيين، وتزايد الدعوات على مستوى العالم لمقاطعتها من أجل الضغط على الحكومات لوقف دعمها، قد تجد هذه المنظمات صعوبة في الحفاظ على هذا النفوذ في المستقبل.
ختاماً، فإن تغلغل الحركة الصهيونية في دوائر صنع القرار الدولي كان له تأثير عميق في تشكيل السياسة العالمية، خاصة في الشرق الأوسط، فقد أثَّر بشكل كبير على نتائج الصراعات الإقليمية وخلق حالة من التوتر الدائم بين دولة الكيان والعالم العربي، وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية تمكنت من تحقيق أهدافها عبر التأثير في السياسة الدولية، فإن تداعيات ذلك على المستوى الإنساني والسياسي تظل محط جدل وتحديات مستمرة.