يمتد دور الأمهات في حياة أطفالهن إلى ما هو أبعد من كونه مجرد وسيلة تواصل، ليشكل تأثيراً عميقاً على الهوية الثقافية والاجتماعية للطفل، وهي المهمة التي تبدأ مع مراحل النطق الأولى، وفيها يتجلى دور الأم بوصفها النموذج الأول الذي يصغي إليه الطفل، ويتشرب منها مفردات لغته وأساليبها، سواء من خلال الحوارات اليومية أو عبر القصص والحكايات التي تنقلها له.
ويبدأ غرس حب اللغة العربية في نفس الطفل عندما تدمج الأم اللغة في حياته اليومية، مثل قراءة القصص، وترديد الأناشيد البسيطة، والتفاعل معه باستخدام المفردات العربية السليمة الممزوجة بالحب والصبر، فوفقًا لما أثبتته الدراسات فالأطفال الذين يتعرضون لمفردات لغوية غنية في مرحلة الطفولة المبكرة، يكتسبون مهارات لغوية أقوى في سنوات لاحقة، وهنا يتضح أن دور الأم لا يتوقف عند تعليم الطفل النطق الصحيح للكلمات، بل في ترسيخ حب اللغة وارتباطه بها من خلال تجارب حياتية بسيطة وممتعة.
ويمتد دور الأم وكذلك الأب إلى استثمار وقت الطعام أو اللعب، لتعليم الطفل مفردات جديدة وربطها بسياقات عملية، عبر الحديث المستمر الذي من شأنه تنمية حس الاستماع لديه، وتعزيز قدرته على فهم التراكيب اللغوية، ويعد هذا التفاعل اللفظي الأساس في تكوين قاعدة لغوية متينة تمكنه من التعبير عن أفكاره ومشاعره مستقبلاً.
ولأن الأم هي الرابط الأول بين الطفل ومحيطه الثقافي، فإن استخدامها للغة العربية يسهم في بناء هويته الثقافية، ويرسخ فيه الشعور بالفخر بانتمائه الثقافي والديني، ويحيي علاقته مع تراثه اللغوي.
التواصل اليومي أساس البناء
يشكل التواصل اليومي بين الأم والطفل حجر الزاوية في بناء اللغة لديه، إذ يتعدى دوره مجرد وسيلة لنقل المعلومات إلى كونه جسرًا ينقل عبره العالم بكل تفاصيله إلى الطفل، فيكتسب منه المهارات اللغوية والأسلوبية التي تؤهله للتفاعل مع محيطه، فالمحادثات اليومية البسيطة، التي تتكرر في سياق الأنشطة الروتينية، تعد إحدى أكثر الطرق فاعلية لتطوير مهارات النطق والتعبير لدى الأطفال، وفيه يتعلمون الكلمات والجمل بفضل التكرار والممارسة الطبيعية.
وعندما تحرص الأم على استخدام لغة واضحة وبسيطة في حديثها مع الطفل، فإنها تنشئ بيئة لغوية مشجعة للنمو اللغوي؛ إذ أشارت دراسات علمية إلى أن الأطفال الذين يخوضون محادثات يومية مع أمهاتهم منذ الصغر يكتسبون مفردات أكثر، ويتطور لديهم حس النطق الصحيح وقواعد اللغة بشكل أسرع مقارنة بمن يحرمون من هذه التفاعلات اللفظية.
وقد أبرزت دراسة نشرت في مجلة «Child Development» (2020م) أن نوعية التواصل بين الأم والطفل، بما في ذلك تنوع الكلمات والعبارات، تؤدي دورًا مهمًا في تشكيل قدرات الطفل اللغوية في مراحل لاحقة، كما أن المحادثات اليومية تسهم في تعزيز ثقة الطفل بنفسه وقدرته على التعبير عن احتياجاته وأفكاره، فهي توفر له فرصة للاستماع إلى اللغة بصورها المختلفة ولتقليد نطق الكلمات والجمل.
وعلى سبيل المثال، عند تناول الطعام أو اللعب، يمكن للأم أن تسمي الأدوات والمكونات بصوت واضح وتكررها؛ ما يساعد الطفل على ربط المفردات بالبيئة المحيطة، أيضًا استخدم التعبيرات العاطفية والنغمات الصوتية يعزز من فهم الطفل للكلمات في سياقاتها المختلفة، ويسهم في تطور اللغة والقدرة العاطفية لديه.
القصة كأداة لغوية
تمثل القصة في مراحل الطفولة المختلفة أداة تربوية فريدة تتيح للأم ليس فقط تنمية مخزون الطفل اللغوي، بل أيضًا غرس قيم ومفاهيم ثقافية راسخة في وجدانه، فمن خلال الحكايات التي تحمل في طياتها حِكمًا مستوحاة من النصوص القرآنية والسيرة النبوية، يمكن للأم أن تقدم للطفل نموذجًا حيًا للغة العربية في صورتها الأدبية الرفيعة؛ ما يساعده على اكتساب مفردات جديدة وصقل مهاراته في التعبير بأسلوب مشوق وجذاب.
ولا شك أن القصص والحكايات الإسلامية بما تعكسه من معانٍ سامية، تستمد من الأخلاق والقيم، مثل الصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، تربط الطفل بلغته وثقافته في آنٍ واحد، فعندما تحكي الأم قصصًا مثل قصة النبي يوسف مع إخوته، أو قصة النبي موسى مع فرعون، فإنها تنقل للطفل تراكيب لغوية غنية، وتوضح له معاني المفردات عبر سياقاتها الدقيقة، وهذا الأسلوب لا يعزز المهارات اللغوية للطفل فحسب، بل يربطها بسياقات ثقافية تعزز من فهمه للعالم من حوله، كما أظهرت دراسات علمية عديدة، من بينها دراسة نشرت في مجلة «Early Childhood Education Journal»، التي أكدت أن السرد القصصي يحسن مهارات الاستماع والتعبير لدى الأطفال.
ومن خلال القصة، يمكن للأم أن تستخدم أسلوب التكرار والتفاعل لتثبيت المفردات في ذهن الطفل، إذ يعد التفاعل اللفظي بين الأم والطفل عنصرًا أساسيًا في هذا السياق، فعندما تسأل الأم الطفل عن مغزى القصة، أو تطلب منه تكرار الأحداث بلغته الخاصة، فإنها تنمّي لديه قدرة التحليل والتفكير، وتثري معجمه اللغوي بمفردات جديدة مع تقديمها في سياقاتها الطبيعية.
وتتميز القصص الإسلامية باستخدامها للغة فصيحة، وهي بذلك وسيلة فاعلة لتعريف الطفل بأساسيات اللغة العربية من نحو وصرف، بعيدًا عن تأثير اللهجات العامية، كما تمتد أهمية القصة إلى كونها تثير خيال الطفل، وتشجعه على طرح الأسئلة والتفاعل مع النص المروي، وترسخ لديه حب التعلم والاستكشاف اللغوي، وعندما تحرص الأم على اختيار القصص الإسلامية وترويها بأسلوب مشوق يتخلله التنغيم وتغيير النبرات الصوتية، فإنها تضيف بعدًا عاطفيًا يعمّق من فهم الطفل واستيعابه للغة، وهذا التفاعل الإيجابي لا يعزز المهارات اللغوية فحسب، بل يقوي الرابط العاطفي بين الطفل وأمه، ويجعله أكثر تقبلاً للتعلم من خلالها.
تحديات تواجه الأمهات
تواجه الأمهات تحديات ليست بالبسيطة في غرس حب اللغة العربية لدى أطفالهن بسبب الهيمنة المتزايدة للغات الأجنبية في مختلف جوانب الحياة اليومية، مثل التعليم، والألعاب الرقمية، ووسائل الترفيه، كما يميل الأطفال لاستخدام الإنجليزية بسبب تأثير الإعلام والمدارس الأجنبية.
بالإضافة إلى ذلك، يعاني المحتوى الرقمي العربي نفسه من نقص حاد؛ ما يجعل من الصعب العثور على موارد تعليمية جذابة وذات جودة، كما تواجه الأمهات صعوبة في تخصيص الوقت الكافي لتعليم الأطفال اللغة العربية بسبب ضغوط الحياة اليومية، وقد يفتقر البعض منهن إلى الإلمام بقواعد اللغة، بل هناك أيضًا من يترددن في تعليمها للأطفال بسبب التأثير القوي للغات الأجنبية.
ورغم هذه التحديات، فإن هناك أملاً في إيجاد حلول مبتكرة، مثل استخدام التقنيات الحديثة لإنتاج محتوى تعليمي ممتع وتعزيز وعي الأمهات بدورهن في الحفاظ على اللغة العربية.
ويبقى أن تعليم أطفالنا لغتهم العربية السليمة لا يتحقق إلا من خلال التربية الإسلامية التي تسعى مجتمعاتنا إلى ترسيخها، التي تقوم على ربط الأبناء بالقدوة الصالحة والأسوة الحسنة؛ فكل الصفات التي يتطلع إليها أبناؤنا في الشخصيات التي يحبون تقليدها، كالجمال والذكاء والعلم والشجاعة والقوة والكرم، تجسدت في شخصية واحدة، هي إنسان الكمال، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك، كان هو القدوة الأولى التي يجب أن نقتدي بها في تربية أولادنا، كما قال: «أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن»، وعندما يرتبط أبناؤنا بحب نبيهم وقرآنهم، فإنهم بذلك يرتبطون أيضًا بحب لغتهم.
_______________________
1- مختار، عبدالعزيز، (2015)، «أثر التفاعل اللغوي بين الأم والطفل على اكتساب اللغة»، دار النهضة.
2- تقرير يونيسف عن «أهمية السنوات الأولى في تنمية اللغة لدى الأطفال».
3- Child Language Acquisition and the Role of Caregivers, Journal of Early Childhood Research.