حديث التوسط حديث لا يملُّ، منثور في الكتابات والخطابات والمواعظ والمؤتمرات، هو عنوان أطاريح لا تحصى من البحوث المحكمة، والمعدة للمناقشة، أو التي اجتاز بها أصحابها الدرجة، فأدلة التوسط لا تحصى، وتوجيه دلالتها لا تشق.
ما أيسر أن تقف منبهراً بحديث عن ضرورة سلوك التوسط، وأهمية المشي بالاعتدال.
أما حديث الآمال فهو حديث النفس حين تنفرد بصاحبها، فصاحب النفس بين أمل يرجوه، وأمنية يتوق لها، وإنما نحن كما قيل: «أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة، ولا يمكن أن يوجد بين قلوب البشر قلب لا يخفق بالآمال، فالأمل هو الحياة التي يشترك في العيش فيها جميع الناس أذكياء وأغبياء، فهماء وبلداء، والأمل هو السد المنيع الذي يعترض في سبيل اليأس ويقف دونه أن يتسرب إلى القلوب، ولو تسرب إليها لزهد الناس العيش في هذه الحياة الحسية التي لا قيمة لها في أنظارهم، ولا لذة لها في نفوسهم، ولطلبوا الفرار منها إلى الموت تسلياً بالتغير والانتقال، وتلذذاً بالتحول من حال إلى حال»(1).
ولا يختلف حديث الآلام عن حديث الآمال في نفس المرء، فالإنسان بين أمل يرجوه، وألم يلم به من فوات ما أمّله، وحين يكون نظر الإنسان في الحياة قاصراً تألم من فوات الأمل أشد التألم.
الإيمان يهذبنا
من القيم التي يغرسها فينا الإيمان قيمة الأدب بحضرة ذي الجلال، وهي قيمة سامية قال فيها الجنيد: الأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء، كحال مجالس الملوك(2)، فحين يعدنا الله تعالى فوعده حق لا يتخلف، ولكن لكل وعد شرائط يتطلبها، فالغرس لا ينبت إلا حيث وجد أرض الغراس، ولا يثمر إلا إذا تُعهد بالرعاية، وكل نبتة تُركت على قارعة الطريق فإنها لا تنبت، فإذا نبتت وتركت بلا رعاية فإنها لا تثمر.
من هنا كان النظر في المقادير والوعود الإلهية على ألا تتخلف أبداً، لكن لها محل لا بد من توفره.
مما يفتُّ في عضد الإنسان، ويوهن نفسه، ويحبطها باليأس تصوره أن المقادير لا بد أن تكون وفق معادلات الرياضة، فيأخذ بالأسباب، ثم يجد النتائج تتخلف، فيصاب بالألم بعدما كان في شدة الأمل، فحساباته الضيقة كدرت عليه النتيجة، لكن الكون لا يسير في القضاء الإلهي بقانون الرياضة، فالعمل والسعي مطلوبان، لكن النتائج بيد من بيده الخلق.
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافاكا؟
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟
نظرات القاصرين
حين ينظر بعضهم في الكتاب العزيز، ينظر للعطاء، فيقرأ في كتاب الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)؛ فيحدوه الأمل الشديد، ثم لا يتلوه إلا الألم الأشد، فهو يلتفت يمينا ويسارًا، ويقلب الطرف شمالاً وجنوباً، فلا يجد إلا هزائم تلو هزائم فينعطف سائلاً: أين النصر الموعود؟ وبعدما كان مستبشراً بالأمل، صار ممتلئاً بالألم.
وبين أمل وألمه ضاعت معان كان عليه أن يتأملها، حتى لا يجاوزه الأمل إلى الألم، فلو فكر في مناحي النصر وأنواعه، وعرف أن أصحابه هم الذين أضافهم الله إليه؛ رسله، والمؤمنون إيماناً بشرائطه، لعلم أن الألم داخله من خلْط أمله بالنظر القاصر
والأمة صارت جراحها جراحاً نازفة في أنحاء الجسد، وكلما هدأ فيها جرح، ثارت في جنبها جراحات، حتى حار الحليم في قضاء الله بها، لكن في التنزيل الحكيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) (البقرة: 214)، لكن نصر الله قريب، حيث هو «مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى «نَصْرُ اللَّهِ»، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله»(3).
إن بعضنا يدرس التاريخ في سنوات النصر، وربما ينسى أن يذهب إلى عقود وقرون الإعداد له، فيظن أن النصر هو فقط يوم تحقق، ويغفل عن قرون معبأة بتفاصيل الإعداد، تماماً كالذي لا يرى في صورة النصر إلا الجندي الذي يحمل السلاح، وينسى آخرين صنعوه له، وآخرين هيؤوا له الأسباب بلباس غير لباس الجند، ولكنهم في الحقيقة مداد النصر مع من باشره.
لكن النصر في الأمم قد يكون كالطريق الطويل غير المعبّد، وأفرادها الذين ينشدون النصر أثناء عبور الطريق يموت بعضهم في أوله، وآخرون في وسطه، وآخرون قبل بلوغ النهاية، ويولد آخرون مع بلوج النصر، وشروق شمسه، فالكل منصور وليس من أدرك لحظة النصر وحده هو المنتصر، وإن كان لا يعلم بالجماجم والأشلاء التي كانت في مساره، وهو معنى يغيب كثيراً عن أصحاب الآمال، فيقعون في الآلام.
هذا الوقت سوف يمر
التوسط في استشراف الأمل، يجعل الألم سهلاً يمر، في منثور الحكم عبارة رائقة: «هذا الوقت سوف يمر» حين يضيق الخناق على المرء، ويرى الكون من حوله شديداً عليه، فليتذكر أن هذا الوقت سيمر، وحين يرى نفسه تعانق السحاب تيهاً وفرحاً، وملك ما أمَّله وهفت إليه نفسه وتاقت، فليتذكر أن هذا الوقت سيمر.
من هنا كان على المرء في سبيل الحياة أن يتوسط فرحاً وحزناً، وأن يعلم أن مجموع العمر هو ما يعيشه لا ما يحققه في الدنيا، أو يتحقق وفق ما يريد، فأعمارنا هي أعمارنا، فليست تقاس بربح أو خسارة، ولا بنصر أو هزيمة إنما تقاس بمدى عمارتها وفق مراد الله منها، ولننظر إلى أوامر الله تعالى في كتابه: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (الإسراء: 110)، وقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء: 29)، فهذا شأن الصلاة، وهذا شأن الإنفاق وسط بين أمرين.
فإذا مرت بك الحوادث فلتمر في إطارها، فالدنيا لن تقف عند حادثة، والكون سيسير إلى مراد الله، ولا يخرج عنه أبداً، والعاقل من عبَدَ الله لأنه الله، لا من عبَدَ الله على شرط تحقيق المرادات والآمال، فإن من فعل عادت عليه الآمال آلاماً، وعادت الهدايا بلايا، والعاقل هو من توسط في الأمل، وتوسط في الألم، فلم يلهه الأول، ولم يقنطه الثاني، فعاش في الدنيا بين أمل يرجوه، وألم يوشك أن يزول.
___________________
(1) النظرات (2/ 54 و135).
(2) مدارج السالكين (2/ 357).
(3) في ظلال القرآن (1/ 219).