ساعة تمضي، ويوم يجري، وشهر يَمُر، وعام ينتهي، وعمر ينقضي، في هذه الأوقات جنين يتكون، وطفل يولد، وولد يشب، وشاب يكتهل، وكهل يشيخ، وشيخ يموت، فلكل بداية نهاية، ولكل أول آخر.
وقد جعل الله تعالى مرور الأوقات وانتهاء الأعوام نذيراً لمرور الأعمار وانتهائها؛ لذا وجب علينا في خواتيم الأعوام أن ننتبه إلى ما يأتي:
1- الاعتبار بمرور الأيام:
تمضي الأيام في سرعة شديدة، بحيث لا يكاد الإنسان يهنأ بحالة واحدة وقتاً طويلاً من الزمن، فالطفولة تمر سريعاً، والشباب ينتهي فجأة، ثم تأتي الكهولة ليجد الإنسان عمره كله كأنه ساعة من نهار؛ (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) (الأحقاف: 35)، فمن أدرك هذا فعليه أن يعتبر، ويعلم أن لكل شيء نهاية، فليحسن كل إنسان صناعة نهايته.
2- محاسبة النفس:
لا ينبغي للمسلم أن يمر يومه دون أن يجلس مع نفسه بعض الوقت، يحاسبها على ما بدر منها، فيصلح ما أفسدته نفسه أو أغواه به شيطانه، أو يستدرك ما فاته من عمل صالح.
وإن حاجة الإنسان إلى المحاسبة اليومية تأتي من طبيعته الفطرية في النسيان، فإذا لم يحاسب نفسه فإنه قد ينسى ما فعله، ولا يتذكره إلا في الأوقات التي تصعب فيها المعالجة أو تستحيل فيها العودة.
أما صعوبة المعالجة فتكون بسبب كبر السن وضعف الجسم، وأما استحالة العودة فتكون بحضور الأجل أو قيامة القيامة، فقد قال تعالى معبراً عن استحالة العودة عند حضور الأجل: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10} وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون)، وقال عز وجل: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر: 37).
أما المحاسبة العامة للنفس، فهي تخفف المحاسبة عن الإنسان يوم القيامة، حيث إنه يستدرك بسببها ما فاته من أعمال صالحة، ويتوب مما بدر منه من سوء، ويدل على هذا ما أورده ابن الأثير عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ، أَوْ قَالَ: أَيْسَرُ لِحِسَابِكُمْ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ(1).
3- اغتنام الأوقات:
حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام الأوقات، حيث روى الحاكم وغيره عن ابن عباسٍ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِرَجلٍ وهو يَعِظُه: “«اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرمِكَ، وصِحَّتَك قبل سَقْمِكَ، وغِناكَ قبْلَ فقْرِكَ، وفَراغَك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحياتَك قَبْلَ مَوْتِكَ».
وكان الصحابة والتابعون يحرصون أشد الحرص على اغتنام الأوقات، فعن ابن مسعود قال: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي، وقال الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا ينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة، وقال أيضاً: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم، أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم، وقال عمر بن عبدالعزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما(2).
4- إحسان الختام:
روى البخاري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ»، فإذا كانت الأعمال بالخواتيم، فعلى كل مسلم أن يحسن خواتيم أعماله، حيث إن المرء يبعث على ما مات عليه، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ»، وإن إحسان خواتيم الأعمار مرتبط بإحسان خواتيم الأعوام والأيام، فالمرء يموت كل يوم في منامه، ولكنها الموتة الصغرى، التي يعود فيها للحياة عند استيقاظه إذا أراد الله له ذلك، قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر: 42).
وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ذلك حين دعانا قبل النوم وبعده أن نقول دعاء يذكرنا بالموت، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا»، وَإِذَا قَامَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»، فالنوم يذكرنا يوميا بختام العمر، حتى نعتبر بذلك فنحسن التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
5- حسن الإعداد للعام القادم:
لقد أمر الله تعالى بالإعداد والتخطيط للغد، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18)، والغد الذي أمر الله تعالى بالإعداد له في الآية الكريمة يشمل كل غد، فهو يشمل الغد القريب في الدنيا، والغد البعيد في الآخرة، فعلى المسلم أن يخطط لهذا الغد بالنية الصالحة، ولإعداد الجيد، فإن التخطيط هو بوابة النجاح في الأعمال، بل إن المسلم إذا أعد للغد، ولم تسعفه الظروف أو الأجل للقيام بالعمل؛ فإنه يأخذ الأجر والثواب بالنية الصالحة.
ففي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللَّهُ سيئة واحدة».
___________________
(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير (4/ 156).
(2) الوقت في حياة المسلم: د. يوسف القرضاوي، ص 11- 13.