رأينا في المقالة السابقة كيف كان علماؤنا يفحصون الآيات جيداً ليستخرجوا منها واجباً عملياً يحقق مراد الآية، ولأن الهدف من ذكر هذه النماذج هو تدريبك أنت على فحص الآيات، فسنذكر في هذه المقالة المزيد من الأمثلة على حرص علماء الأمة على فحص الآيات والتمعن فيها.
– قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) (الأنفال: 45)؛ افحص الآية جيداً بغرض العمل بها واسأل نفسك: لِمَ افترض الله ذكره عندما يكون العبد أشغل ما يكون عند مقارعة العدو والتحام الصفوف؟! والجواب: لأن ذكر الله يقوي المجاهدين حال مصارعتهم لعدوهم، أفلا يقويك أنت في مواجهة مشكلاتك وبلوغ أهدافها؟ فإذا وقعت في أزمة أو شدة فافزع إلى هذا الحصن الحصين والسلاح النافذ.. ذكر الله.
– قال الله تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 44)؛ فحص الحسن البصري هذه الآية جيداً فاستخرج منها عملاً غاية في الأهمية، والعمل قد يكون عمل جوارح أو عمل قلوب، ومن العمل تغيير المفاهيم والتصورات؛ لأنها أول ما يحكم السلوك والتصرفات، ومن التصورات الخاطئة السائدة أن التوسعة في الرزق علامة رضا الله عن العبد، وأن التقتير عليه علامة غضب الله.
يجب أن تتدرب على مهارة فحص الآيات واستخلاص الواجبات العملية منها
فصحَّح الحسن هذا التصور الخاطئ من خلال تدبره لهذه الآية الكريمة، فالتوسعة المادية على العبد قد تكون مكراً بالعبد واستدراجاً له فيستمر في الذنب بعد أن أرخت النعم أعصابه وشغلته عن تفقد أحواله ومحاسبة نفسه على أعماله؛ فتزداد غفلته كلما زادت نعمته، ويزداد من الله بُعداً كلما زاد منه النعيم قرباً، ولذا يتعامل المؤمن مع السعة والضيق في الرزق تعاملاً مختلفاً وفق التصور والمفهوم الصحيح.
إن تغيير التصورات عمل، بل من أجلّ الأعمال وأعظم الأصول، وما السلوك والاختيارات والقرارات التي يتخذها المرء إلا فرع من تصوراته، كأن تغيير التصورات والمفاهيم من عمل القرآن في القلب إذا تدبره صاحبه بغرض العمل به، وعلى المرء أن يراجع تصوراته دائماً في ضوء تصورات القرآن ومفاهيم الوحي، حتى يتأكد أن مصادر تصوراته لا تتعارض مع ثوابت الوحي والقرآن.
– قال تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة: 61)، ماذا تعلمك هذه الآية؟ تعلمك تحديد الأولويات والأسس التي تُقدّم بها طاعة من الطاعات على غيرها، وتدفعك لتحسين عملك لتُقْدم دائماً على الأعلى أجراً والأعظم ثواباً؛ حيث إن المؤمن لا يحرص فقط على ما يحبه الله ورسوله، بل يحرص على الأحب إلى الله ورسوله، فيبحث عن أفضل الصدقات؛ أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح، أفضل الصدقة صدقةُ ذي الجهد المقل، أفضل الصدقة على ذي الرحم والقرابة لأنها صدقة وصلة.
ويبحث عن أفضل الصلاة؛ أفضل الصلاة صلاة القنوت في جوف الليل والناس نيام، وأفضل الصلاة صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة.
ويبحث عن أفضل الدعاء؛ وأفضله ما كان بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضله ما كان بجوامع الكلم.
والتفاضل بين الأعمال نجده بارزاً في قول الله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف: 145)؛ قال ابن تيمية: فدل على أن ما أُنزل حسنٌ وأحسن.
وهكذا تشكل هذه الآية العظيمة نفسية المؤمن وتحكم اختياراته وتجرد توجهاته في أعظم الأعمال وأبسطها.
عليك أن تنفق مما تحب وهو ما ينمي فيك الإيثار ويقضي على الأنانية والأثرة
– قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)؛ افحص هذه الآية جيداً تجد فيها مفتاحاً من مفاتيح السعادة الزوجية؛ وهو حرص الزوجين المتبادل على المشاعر والأحاسيس، هكذا رآها ترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فقال: إني لأتزين لامرأتي، كما تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، تأمل كيف وسّع ابن عباس مفهوم الآيات ليشمل واجبات الزوجين في الزينة.
– قال تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: 269)؛ لو فحصت هذه الآية جيداً لأخرجت منها عملاً رائعاً كما فعل الإمام القرطبي حين قال: وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يرفع نفسه ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم، فإنما أعطي أفضل مما أعطي أصحاب الدنيا؛ لأن الله سمى الدنيا متاعاً قليلاً، وسمى العلم والقرآن خيراً كثيراً، فتأمل استخراجه الرائع وتوجيهه لك بالترفع عن الدنيا والدنايا، وعزة النفس خاصة في معاملة أصحاب الجاه والثراء.. يا صاحب القرآن، ما آتاك الله خير مما آتاهم.
– قال تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، والسؤال الذي يجب أن تسأله لنفسك وأنت تقرأ هذه الآية: هل عمل بهذه الآية من أنفق أردأ ما يملك؟! إن عملك بهذه الآية يفرض عليك أن تنفق مما تحب؛ وهو ما ينمي فيك خلق الإيثار، ويقضي على الأنانية والأثرة، ويعالج في النفوس داء الشح، والشح هو سبب العداوة والبغضاء.
من أعطي العلم والقرآن ينبغي ألا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم
– قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 110)؛ كيف تعمل بهذه الآية؟ قال ابن كثير: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها، فاحرص ألا تأوي إلى فراشك ليلاً إلا وقد أمرت غيرك بمعروف أو نهيته عن منكر، وألا يمنعك الخجل من أن تأمر وتنهى، وهذا سيزيد إيجابيتك وينقلك من دائرة الصلاح إلى دائرة الإصلاح.
ويجب أن تتذكر أن الهدف ليس هو إطعامك السمك، وإنما هو تعليمك الصيد؛ بمعنى أن مقصدنا من إطالة النفس في ضرب الأمثلة هو أن تتدرب على مهارة تدبر الآيات واستخلاص الواجبات العملية منها.