ليسوا قلة أولئك الذين قادتهم أقدارهم زواراً أو مقيمين في أحد سجون بلادهم ذات الحجارة الداكنة، والأسوار المرتفعة، والأسلاك الشائكة، والوجوه المكفهرة، وويل كل الويل إن كان من أولئك الذين تدفعهم عقولهم وعقيدتهم للوقوف لحاكم ظالم ومواجهته بظلمه لتكون سجيناً «سياسياً»، لتضاف لخصائص السجن خصيصة أخرى، تضاف على قسوة صخوره وأبوابه الحديدية السوداء قلوب أقسى منها وأشد سواداً من ظلمة لياليها، وكيف لا وأنت من تهدد عروش الظالمين وتزلزلها بفكرة، أو بكلمة، أو بأمنية في حياة إنسانية حرة، حاولت أن تجهر بها يوماً؟!
فما هي تلك السجون القاسية؟ ومتى نشأت فكرة بنائها؟ ومتى تحولت من فكرة لتهذيب المجرم وردعه عن أفعاله المشينة في حق مجتمعه، إلى ساحات للانتقام والتنكيل بالأبرياء لمجرد رأي مخالف؟
هناك وظيفتين للسجن، الاعتقال المؤقت، والتنفيذ النهائي للعقوبة السالبة للحرية
هناك عدة تعريفات لكلمة السجن، نبدأ بتعريف أندري أرمازيت الذي عرفه بأنه: «بناء مقفل يوضع فيه الأشخاص المتهمون في انتظار محاكمتهم أو تنفيذ الأحكام ضدهم»، ومن هنا نجد أن هناك وظيفتين للسجن، هما: الاعتقال المؤقت، والتنفيذ النهائي للعقوبة السالبة للحرية.
وأما تعريفه في موسوعة «لاروس الكبرى»: بناية مخصصة لاستقبال وإيواء المتهمين والأضناء والمحكومين بعقوبات قضائية، وعرفه فوكو بأنه: مؤسسة تهذيبية سامية، وأما عند بيفار فهو: مؤسسة زجرية ووقائية تقوم بمهمة عزل الأشرار عن الأخيار لضمان حماية هؤلاء ووقايتهم.
أما المدرسة القانونية فقد استندت في تعريفها للسجن إلى معيار السبب، فاعتبرته مكاناً لتطبيق العقوبات ضد المجرمين، وبمعنى آخر المكان المخصص لتنفيذ العقوبات السالبة للحرية وإعداد الشخص المنحرف للتكيف والاندماج في الحياة العامة من ناحية أخرى، وهذا التعريف يتوافق مع معنى السجن في المعجم العربي حيث إنه: المكان المعد لإيواء الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام أو أوامر سالبة للحرية من سلطة مختصة.
الوظائف الأساسية للسجن
وقد أنشئت السجون لأسباب عديدة أو كما يجب في إطار القانون، مر بنا منها أنها للاحتجاز حتى إيقاع العقوبة على الخارج على القانون، حتى صار هو في ذاته عقوبة مستقلة وذلك لعدة أسباب اصطلاحاً، ومنها:
– العقاب: يمثل السجن وسيلة لتنفيذ العقوبات التي تقضي بها المحاكم على المجرمين، وذلك كجزاء لارتكابهم أفعالاً مخالفة للقانون.
– الردع: يساهم السجن في ردع الآخرين عن ارتكاب الجرائم، من خلال إظهار العواقب الوخيمة التي قد تترتب على هذه الأفعال.
– الحماية: يحمي السجن المجتمع من خطر تكرار الجرائم من قبل الأشخاص الخطيرين، وذلك بعزلهم عن المجتمع لفترة محددة.
– الإصلاح والتأهيل: وذلك من خلال توفير برامج تعليمية ومهنية وعلاجية تساعدهم على الاندماج في المجتمع بعد الإفراج عنهم.
قديماً كانت العقوبات شديدة القسوة ، وكانت تنفذ بشكل علني
تطور استخدام السجون كعقوبة إنسانية
بالبحث في أمهات الكتب عن بدء التعامل مع فكرة حبس الإنسان في مكان مغلق يحول بينه وبين حريته كعقوبة على جرم اقترفه في حق الغير، اتضح أنه لم يوجد تاريخ محدد معروف لاستخدام تلك العقوبة، فقديماً كانت العقوبات شديدة القسوة والعنف، وكانت تنفذ بشكل علني فور اكتشاف الجريمة ومرتكبها؛ وذلك حفاظاً على نمط الحياة القاسية في العراء أحياناً وفي الأكواخ التي لا تكاد تحمي سكانها إن لم يكن هناك قوانين تلائم قسوة الطبيعة المحيطة.
ثم نشأت الحاجة فيما بعد لاحتجاز المجرم لبعض الوقت للتبين من صحة ارتكابه الجرم، ومن هنا نشأت فكرة إقامة مكان لاحتجاز المحقق معهم أو بشأنهم حتى وقت تنفيذ الحكم الرادع؛ «فلم تكن السجون في بدايتها مصممة للعقاب بقدر ما كانت مكاناً للاحتجاز المؤقت في تنفيذ العقوبة الفعلية»(1).
تطورت فكرة العقوبة لتكون قضاء بعض الوقت في السجن بما يوازي حجم الجريمة
ومع التقدم البشري، تطورت الفكرة لأن تكون العقوبة هي قضاء بعض الوقت في السجن بما يوازي حجم الجريمة، ومع تقدم الأنظمة الحاكمة من القبلية وتوسعت المجتمعات فصارت قرى ومدناً، تحول السجن من مكان لقضاء عقوبة على جريمة ارتكبت، لمكان لاحتجاز من يعارض النظام الحاكم أياً كانت صورته، فعرفت مصر القديمة السجن واحتجاز الأبرياء لمجرد رأي اعتنقوه، وكذلك عرفتها اليونان والإمبراطورية الرومانية والعراق، وقد ذكر القرآن الكريم قصة أشهر سجين مظلوم في التاريخ، وهي قصة يوسف عليه السلام حيث تصف الآية كيف يسجن المظلوم من بعد أن تتبين حقيقة مظلوميته فيقول تعالى واصفاً سجن مصر: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف: 35).
تحولت السجون من مجرد أماكن للحجز إلى مؤسسات ذات وظائف متعددة
تطور السجون خلال العصور الوسطى(2)
شهدت السجون تحولات جوهرية خلال العصور الوسطى، حيث انتقلت من كونها مجرد أماكن للحجز المؤقت إلى مؤسسات ذات وظائف متعددة، فبعد أن كانت قبل تلك العصور مجرد أماكن بسيطة للحجز في انتظار المحاكمة أو تنفيذ العقوبة التي غالباً ما تكون صارمة وشديدة مثل الجلد والبتر وقد تصل للإعدام قتلاً.
وفي فترة العصور الوسطى، أو ما اصطلح عليه باسم العصور المظلمة، مع نمو المدن والدول واتساع المجتمعات ازدادت الحاجة لإنشاء أماكن للاحتجاز أكبر وأكثر تأميناً مما هو موجود بالفعل، ولم تكن تستخدم فقط لانتظار المحاكمات، وإنما استخدمت كعقوبة بالاحتجاز، وتم استخدامها كمستودعات للعبيد وأماكن لتعذيب المخالفين والمشكوك فيهم، أيضاً تطور النظام القانوني وتغيرت الإجراءات القانونية علاوة على التغيرات الاجتماعية والدينية ونظرتها لمفهوم الجريمة والعقاب فأدى كل هذا للحاجة لزيادة عدد السجون وتغيير شكلها العام.
قبل نشأة السجون كانت العقوبات أعمال شاقة، أو نفي
صور العقوبات قبل إنشاء السجون
كانت العقوبات في مرحلة ما قبل السجون أقرب إلى التوحش منه إلى العقوبة، ولم تكن توازي حجم الفعل، «فقبل نشأة السجون كانت العقوبات التي تفرضها السلطة دائمًا بدنية، عبارة عن أعمال شاقة، أو نفي بدون محاكمة، وكان التعذيب الجسدي عادةً ما يتم بصورة علنية، وفي الساحات العامة، بهدف ردع المجتمع»(3)، فكانت العقوبات إما جسدية تصل للبتر والوسم لتعريف الناس بالمجرم أو الإعدام، وقد تكون مالية بفرض الغرامات، أو المصادرة ، أو الاستعباد، وإما عقوبات دينية كالتكفير.
وبعد تطور المفاهيم الإنسانية وظهور بعض الرفض لتلك العقوبات القاسية التي كانت غالباً لا تطبق إلا على الفقراء والضعفاء، ظهرت الحاجة لإيجاد عقوبة أكثر رحمة ولو بنسبة قليلة، وقد ظهر في الأفق إرادة البعض في «التوبة» والعدول عن السلوك العدواني بعد ارتكاب الجريمة، فكان السجن كمكان يتم فيه تأهيل السجين فكرة تم قبولها، كذلك تطورت النظم القانونية في النظرة للإنسان عامة أجبرت العالم على العدول عن التعامل معه وعقابه كمجرد حيوان لا حقوق له.
الاتفاقيات الدولية تؤكد أن تكون العقوبة إصلاحية وإعادة صاحبها إلى المجتمع
السجون في العصور الحديثة(4)
في القرن الثامن عشر الميلادي وبعد الثورة الفرنسية، تطور مفهوم السجن من مجرد العقوبة لأماكن لإعادة التأهيل وتقويم المخطئين والخارجين على القانون، «اهتم علماء العقاب في تلك الفترة بتحديد أهداف العقوبات السالبة للحرية، وكان الردع الخاص في مقدمة هذه الأهداف، من خلال تأهيل المحكوم عليهم وإعدادهم للاندماج في المجتمع دون العودة إلى ارتكاب الجرائم»(5)، وقد عقدت الاتفاقيات الدولية والمؤتمرات لتؤكد أهمية أن تكون العقوبة إصلاحية وإعادة صاحبها إلى المجتمع كإنسان صالح.
____________________
(1) دراسة بعنوان «عقوبات بلا قيود: تطور نظام السجون عبر العصور دراسة قانونية» مقدمة لدائرة الإصلاح العراقية، أ.د. نبراس سالم خضير.
(2) تُعرف الفترة من التاريخ الأوروبي الممتدة من حوالي 500 إلى 1400-1500 ميلادي تقليديًا باسم العصور الوسطى، استخدم هذا المصطلح لأول مرة علماء القرن الخامس عشر للإشارة إلى الفترة بين عصرهم وسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، غالبًا ما يُعتقد أن هذه الفترة لها تقسيماتها الداخلية الخاصة: إما مبكرة ومتأخرة أو مبكرة، أو مركزية أو عالية، أو متأخرة (الموسوعة البريطانية).
(3) دراسات ووثائق صحيفة المنار، 8/ 10/ 2017م.
(4) ينسب المؤرخون مصطلح بداية العصر الحديث إلى الفترة ما بين عام 1500 تقريبًا إلى 1800م، وتعرف بالفترة التي تلت أواخر العصور الوسطى.
(5) دراسة أكاديمية، مرجع سابق.