بعد حرب دامية استمرت لأكثر من 13 عاماً شنها النظام السوري على شعبه لإخماد مطالبهم المحقة في بناء دولة العدالة، تبرز أهمية التعليم كركيزة أساسية لإعادة بناء سورية المستقبل، وفي ظل التحديات الراهنة، يمثل التعليم أداة حيوية لصياغة عقد اجتماعي جديد يرسخ قيم التعددية والمواطنة ويضمن للأجيال القادمة مستقبلاً مستقراً ومشرقاً، ومن هنا، تأتي الحاجة إلى إعادة التفكير في النظام التعليمي السوري بوصفه المحرك الأساسي للنهوض بالمجتمع وإعادة بناء الدولة السورية.
أشارت تقارير المنظمات التابعة للأمم المتحدة عام 2023م إلى أن أكثر من 2.4 مليون طفل سوري في سن المدرسة (بين 5 و17 عاماً) حُرموا من التعليم داخل سورية وخارجها نتيجة النزاع المستمر، بهذا العدد يشكل ما يقرب من 40% من الأطفال السوريين في هذه الفئة العمرية، في شمالي غربي سورية وحدها، حيث يُقدّر عدد الأطفال المتسربين بنحو 800 ألف طفل.
إعادة صياغة المناهج الدراسية بما يتماشى مع دستور جديد يعكس إرادة كافة أطياف الشعب السوري
وهنا يمكن أن نقف عند أهم التحديات المستقبلية التي تواجه المجال التعليمي في سورية:
1- تطوير المناهج الدراسية:
ارتكزت مناهج النظام السوري خلال عقود من الزمن على تعزيز أيديولوجيا حزب البعث الحاكم، حيث صُممت لتعزيز الولاء السياسي للنظام وتجذير رمزية القائد وعائلته في وعي الطلاب، مع إغفال القضايا الإنسانية والاجتماعية الحقيقية التي تواجه المجتمع السوري.
تميزت هذه المناهج بإقصاء متعمد للتعددية الثقافية والدينية في المجتمع السوري، حيث تهمشت ثقافة الأغلبية السورية ذات المرجعية الإسلامية السُّنية، وأغفلت حقوق الأقليات وخصوصياتهم الثقافية، وقد أسهم هذا التوجه في خلق فجوة معرفية وقيمية وثقافية بين المحتوى التعليمي واحتياجات المجتمع السوري المتنوعة؛ لهذا، فإن الحكومة السورية القادمة تواجه تحدياً جوهرياً في إعادة صياغة المناهج الدراسية بما يتماشى مع دستور جديد يعكس إرادة كافة أطياف الشعب السوري، هذا الدستور، المتوقع أن يشكل عقداً اجتماعياً جديداً، يُعزز الوحدة الوطنية ويُسهم في تحقيق المصالحة المجتمعية.
ضرورة الإسراع في تأسيس المدارس في كافة المدن السورية بحيث تراعي المعايير التربوية العالمية
إن إعادة تصميم المناهج الدراسية لتكون شاملة ومرنة، وذات محتوى قيمي وأخلاقي مستند إلى تاريخنا وحضارتنا العريقة، وبما يتناسب مع احتياجات المجتمع السوري ومتطلبات التنمية المستدامة، يمثل خطوة حاسمة، كما يجب أن تستلهم هذه المناهج من التجارب الدولية الناجحة للدول التي عانت من صراعات مشابهة، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات التكنولوجية والعلمية الحديثة.
2- إعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية:
تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى أن ما يقرب من ثلث المدارس في سورية قد تضررت أو دُمّرت بالكامل بسبب الحرب، علاوة على ذلك، فإن العديد من المدارس المتبقية تُستخدم كملاجئ أو قواعد عسكرية، وفي العام الماضي، قدر وزير التربية السابق في حكومة النظام السوري عدد المدارس المتضررة بنحو 10 آلاف مدرسة، منها 5 آلاف مدمرة بشكل كامل، ليتضاءل عدد المدارس الصالحة للتعليم إلى 14 ألفاً و505 مدارس.
ومع الأخذ بعين الاعتبار رجوع النازحين والمهجرين إلى سورية مع زيادة الكثافة السكانية التي تقدر كما تشير تقارير «يونيسف» بما يقارب 6.5 ملايين طفل سوري، سيشكل تحدياً كبيراً أمام الإسراع في تأسيس المدارس في كافة المدن السورية، وبحيث تراعي المعايير التربوية العالمية، ولا شك أنّ هذا يتطلب دعماً دولياً عاجلاً.
3- كفاية الكوادر التعليمية المؤهلة:
أدت سنوات الحرب إلى نزوح عدد كبير من المعلمين المؤهلين وهجرتهم، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة «يونيسكو» لعام 2023م، فإنّ سورية تعاني من نقص حاد في المعلمين المؤهلين، حيث يعتمد النظام التعليمي الحالي على متطوعين أو معلمين بدون تدريب كاف، ولا شك أنّ توفر الكفاءات التعليمية لكافة المدارس يمثل تحدياً حقيقياً أمام الحكومة الجديدة، وعليه فإنّ تقديم الأجور الوظيفية المجزية سيكون عامل جذب للكفاءات التربوية.
توفر الكفاءات التعليمية والتربوية لكافة المدارس يمثل تحدياً حقيقياً أمام الحكومة الجديدة
4- التعليم في سياق الصدمة:
يعاني ملايين الأطفال السوريين من آثار نفسية واجتماعية نتيجة الحرب، بحسب تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ما يقارب 70% من الأطفال في سورية يظهرون علامات على اضطرابات نفسية؛ ما يجعل دمج الدعم النفسي والاجتماعي في المدارس أمراً بالغ الأهمية، ووفقاً لتقرير «يونيسف» عام 2022م، لا يزال الأطفال في سورية يعيشون حياة مليئة بالخوف والرعب، الخوف من العنف وفقدان الأصدقاء والأحباء والألغام الأرضية ومخلفات الحرب المتفجرة، كما يعانون من إصابات جسدية ونفسية، وإذا تُرِكَت صدماتهم دون علاج، فمن المرجح أن تترك آثاراً وخيمة عليهم مدى الحياة وتؤثر على صحتهم ومستقبلهم.
وهنا سيكون على الحكومة السورية القادمة إيجاد حلول ناجعة تسهم في تعزيز الصحة النفسية للأطفال وعلاج اضطراباتهم الناتجة عن الحرب عبر وسائل تربوية إبداعية يسهم فيها جميع مؤسسات المجتمع السوري الرسمي ومنظمات المجتمع المدني.
5- التعليم المهني ركيزة لإعادة الإعمار:
يُمثل التعليم المهني أحد المحاور الأساسية لبناء مستقبل سورية، خاصة في ظل الظروف الاستثنائية التي أفرزتها سنوات الحرب الطويلة، فمع وجود مئات الآلاف من الأميين الذين انقطعوا عن التعليم، يمكن أن يكون التعليم المهني والتقني جسراً يربط هؤلاء الأفراد بسوق العمل ويعزز مهاراتهم العملية؛ مما يسهم إسهاماً مباشراً في عملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
التعليم المهني والتقني يسهم في عملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية
في هذا السياق، تلهمنا تجارب دول مثل اليابان وألمانيا، التي اعتمدت على نظم تعليمية مهنية متقدمة لإعادة بناء اقتصاداتها بعد الحروب، ففي اليابان، تم تصميم نظام التعليم المهني ليتكامل مع الاحتياجات الصناعية والاقتصادية؛ ما أدى إلى خلق جيل من العمال المهرة القادرين على النهوض بالاقتصاد، أما في ألمانيا، فإن نموذج «التعليم المزدوج» يُعد من أبرز الأمثلة على التكامل بين التعليم النظري والتدريب العملي داخل بيئات العمل؛ ما أتاح تزويد سوق العمل بكوادر مدربة تدريباً عالياً.
وفي هذا السياق، تستدعي المرحلة المقبلة في سورية تطوير منظومة تعليم مهني شاملة تُركز على:
1- إعادة تأهيل الأميين والمحرومين من التعليم: عبر برامج تدريبية قصيرة الأجل تتوافق مع الاحتياجات المحلية، مثل البناء، والنجارة، والزراعة، وغيرها من المهن التي تسهم مباشرة في إعادة الإعمار.
2- مواءمة التعليم المهني مع متطلبات سوق العمل: عبر إنشاء شراكات بين مؤسسات التعليم المهني والقطاع الخاص، بما يضمن تزويد المتعلمين بالمهارات المطلوبة.
3- تعزيز القيم المهنية: مثل العمل الجماعي، والانضباط، والإبداع؛ ما يسهم في بناء قوة عمل قادرة على تحمل مسؤولياتها في مجتمع ما بعد الحرب.
4- إنشاء مراكز تدريب مهنية محلية: توزع على المدن والقرى، خاصة في المناطق التي تعرضت لأكبر قدر من التدمير، لتكون قريبة من المستفيدين.
___________________
1- تقرير اليونيسف حول التعليم في سورية: UNICEF Syria Education.
2- تقرير اليونيسكو عن الأطفال خارج التعليم: UNESCO Syria Report.
3- تقرير البنك الدولي عن التعليم في المناطق المتضررة World Bank Education.
4- تقرير «أنقذوا الأطفال» حول وضع المدارس Save the Children.