بمناسبة «اليوم العالمي للغة العربية»، من المهم أن نناقش واحدة من القضايا المثيرة التي تشغل بال الكثيرين، وهي مسألة أقدمية اللغات السامية، في هذا السياق، يزعم البعض من المستشرقين واليهود أن اللغات العبرية أو السريانية هي الأقدم بين اللغات السامية، بينما يرى العديد من العرب أن اللغة العربية هي الأقدم، وقد ساهم المستشرقون واليهود في نشر هذا الرأي حتى أصبح شائعًا، ليس فقط بين العامة، بل أيضًا بين بعض طلاب وأساتذة اللغة العربية الذين يعتقدون خطأً أن العبرية أو السريانية أقدم من العربية.
ومع ذلك، يعتمد هذا المقال على أدلة تاريخية ولغوية موثوقة تؤكد أن اللغة العربية هي الأقدم بين اللغات السامية، ستستند هذه الأدلة إلى كتابات العلامة شبلي النعماني (ت 1914م)، الذي يعتبر أحد أبرز العلماء في هذا المجال، الذي تناول هذه القضية في مقالاته، سنتناول هنا بعض الأدلة التي قدَّمها النعماني ليثبت أن اللغة العربية هي الأقدم.
السلالات اللغوية الثلاث الكبرى
تشير الدراسات التاريخية واللغوية إلى أن العالم يحتوي على 3 سلالات لغوية كبرى:
1- السلالة السامية: التي تنتسب إلى سام بن نوح، ومنها تفرعت اللغة العربية، والعبرانية، والسريانية، والكلدانية، والنبطية.
2- السلالة الهندية الأوروبية: وهي السلالة التي تضم اللغات الهندية والأوروبية.
3- السلالة الطورانية: وهي سلالة تشمل مجموعة من اللغات التي لا ترتبط بالسامية أو الهندية الأوروبية.
تتميز اللغات السامية بمجموعة من الخصائص الفريدة التي لا توجد في اللغات الأخرى، مثل القدرة على النطق بحروف معينة، مثل: «ح، ع، ق، ص، ض، ط، ظ»، بالإضافة إلى التفريق الواضح بين ضمائر الذكر والأنثى، والاتصال الوثيق بين الضمائر والأسماء والأفعال والحروف.
أقدم اللغات السامية
منذ القدم، اختلفت الآراء حول أقدم اللغات السامية، فقد ذهب العديد من القدماء إلى أن اللغة العبرانية هي الأقدم، بينما رأى بعض العلماء الأوروبيين أن السريانية هي الأقدم، ومع ذلك، يرى شبلي النعماني، ومعه العديد من الباحثين، أن اللغة العربية هي الأقدم، مستندين إلى الأدلة التالية:
– استيعاب اللغة العربية لكافة المفردات والأصول اللغوية:
تُظهر الدراسات اللغوية أن اللغة العربية تحتوي على جميع الأصول والمفردات التي توجد في العبرانية والسريانية، ولكن العكس ليس صحيحًا، العديد من المفردات التي توجد في العربية لا يمكن إيجادها في العبرانية أو السريانية، وهذا يدل على أن العربية أكثر قدمًا وجذرية، بينما برزت اللغتان العبرانية والسريانية في عصور لاحقة.
– التزام اللغة العربية بالقياس الصرفي:
كل لغة قديمة تحتفظ بدرجة كبيرة من النظام اللغوي المتأصل، بينما اللغات الأحدث غالبًا ما تحتوي على شذوذ لغوي أكثر، وفي هذا السياق، تُعد اللغة العربية من أكثر اللغات التزامًا بالقواعد الصرفية، حيث نجد أن الكلمات التي تخالف القياس فيها نادرة جدًا، على عكس العبرانية والسريانية اللتين تحتويان على العديد من الكلمات الشاذة والمخالفة للقياس.
– الاحتفاظ بالأصول اللغوية:
في اللغة العبرانية والسريانية، العديد من الكلمات فقدت أصولها ولا يمكن تتبع جذورها، أما في اللغة العربية، فإن كل كلمة لها أصل وجذر معروف، ويمكن تتبع مشتقاتها بسهولة، هذا يُظهر أن العربية أقدم وأكثر استقرارًا من اللغات السامية الأخرى.
– فقدان الحروف الأساسية في اللغات السامية الأخرى:
من أهم الفروق بين العربية واللغات السامية الأخرى فقدان العبرانية والسريانية لبعض الحروف الأساسية، على سبيل المثال، في العبرانية والسريانية تم فقدان حرف «ن» في «أنت» و«أنتم»، كما فقدت اللغتان حرف «ل» في «اللام» التي تُستخدم للتعريف، أما في العربية، فقد احتفظت هذه الحروف بأدوارها ووظائفها اللغوية.
– استبدال الحروف في العبرانية والسريانية:
من الأدلة المهمة التي تشير إلى أن اللغة العربية أقدم هي عملية استبدال الحروف في العبرانية والسريانية، فقد استبدلت العبرانية حرف «الصاد» بـ«الضاد»، والسريانية حرف «العين»، على سبيل المثال، كلمة «أرض» أصبحت «أرص» في العبرانية، و«أرع» في السريانية، وهذا التبديل يُظهر أن الضاد، وهو حرف لا يُستخدم إلا في اللغة العربية، هو الأصل، وأن الكلمات التي تحتوي عليه عربية الأصل.
– اللغة العربية والكتابة:
قد يُثير البعض شبهةً بأن العبرانية والسريانية تمتلكان مصنفات مكتوبة منذ زمن بعيد، في حين أن أقدم كتاب باللغة العربية ظهر قبيل الإسلام، ولكن هذا لا يعني أن العربية ليست أقدم، الكتابة واللغة شيئان مختلفان، ولا يتطلب وجود اللغة وجود مصنفات مكتوبة، اللغات يمكن أن تكون ناطقة ومستخدمة شفهيًا قبل أن يبدأ تدوينها بقرون، ويُعتبر العرب من الشعوب التي تأخرت في الكتابة بسبب أميتهم، ولكن هذا لا ينفي أن اللغة العربية كانت مستخدمة قبل التدوين.
– استعارة الألفاظ العربية في النصوص العبرانية القديمة:
أحد أقوى الأدلة على أقدمية اللغة العربية هو النصوص العبرانية القديمة مثل «سفر أيوب»، الذي يُعتبر من أقدم المصنفات العبرانية، هذا النص يحتوي على العديد من الألفاظ العربية؛ ما يطرح تساؤلًا: كيف استعارت العبرانية كلمات عربية لو لم تكن العربية موجودة قبلها؟
في ضوء الأدلة اللغوية والتاريخية التي قدمها النعماني، يُمكننا القول بثقة: إن اللغة العربية هي الأقدم بين اللغات السامية، لقد احتفظت بأصالتها واستمراريتها اللغوية بشكل أكبر من العبرانية والسريانية، وظلت قادرة على استيعاب كافة الأصول اللغوية التي نشأت منها اللغات السامية الأخرى، على الرغم من تأخر العرب في تدوين لغتهم، فإن هذا لا ينفي قدم العربية، التي حافظت على بنيتها اللغوية بشكل يجعلها تتفوق على غيرها من اللغات السامية.