منذ ظهر دين الله في الأرض، وتدافعت أمواجه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلادًا كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عامًا بعد عام في ثغور الإسلام. ثم احتشدت هذه العداوات المتفرقة في الثغور حشدًا واحدًا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية، وظلت هذه الحروب مشبوبة قرونًا طويلة، وأداتها السلاح والجيوش والمواقع.
ثم انتهت حرب السلاح والجيوش، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أصحُّ من ذلك أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاحٌ يضعه أو يرفعه، وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة التي جاءت مع الغزاة، ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال إلى ميدانٍ آخر: هو الحياة نفسها!
كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة هو دك الحياة الإسلامية كلِّها: تدكُّ بناء هذه الحياة، وتدكُّ علمها، وتدكُّ آدابها، وتدكُّ أخلاقها، وتدكُّ تاريخها، وتدكُّ لغتها، وتدكُّ ماضيها، وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي، ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين، ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالـمًا صحيحًا، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يومًا في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئًا.
جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة، تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قومًا قد سُلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان، ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثيره الفطرة من بغض العدوِّ والشكِّ فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصح، وتهاوى آخرون، فوقعوا في حَوْزة العدوِّ، إذ غرَّتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلَّت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عامًا، في سكون وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدوُّ منَّا مبلغًا لم يكن في أول الأمر يظنُّ أنه يبلغه، فقد تهاوى البناء كله فجأة، وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالًا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد.
ذهب كلُّ شيء يكون للحياة البشرية قوامًا وعمادًا: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحلُّ مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة، ذهب الذي كان يتحدر إلينا كما تتحدر الوارثات من أصلاب الآباء إلى أصلاب الأبناء، وجاء الذي يتحدر إلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يُبقى ولا يذر، ذهب شيء وجاء شيء، فتغيَّر نظرنا وفكرنا، وتغيَّر إدراكنا ومعرفتنا، وتغيَّر شعورنا وإحساسنا، وتغيَّر لساننا وبياننا، فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا، فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منَّا مَن طرحه وراء ظهره، ولم يبال به، وتهيَّب منَّا مَن تهيَّب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيَّب، فطلبت مخرجًا مِن هذا الشيء الذي تنكره إنكارًا خفيفًا، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي، فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديدًا مقاربًا، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى.
ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئًا بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار ألا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة، وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا.
هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر، لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلًا كاملًا حتى لا يبقَى له من ظلِّ الحقِّ إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر.
ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاوَوْا في كلِّ مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام، وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم الجديد – كما ينبغي أن يُسمَّى – بجميع الوسائل التي يظنون أنها تُفضي بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده، وهم على مرِّ الزمن سوف يتركون آثارًا عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بني عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه، وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده على أسس لم يستمدَّ أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض.
إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى كلِّ ركن في العالم، وسارت حُمَيَّاه سَوْرة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تُريد أن تبني بناء عقليًّا جديدًا لهذا الإسلام الذي تهدَّم بناؤه القديم، فما تجد لسانًا إلا وهو يرسل طوفانًا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكلُّ لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إمامًا يقتدى به، والمقتدون به لا يعلمون شيئًا إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلًا صحيحًا من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه.
وكل داعية يظنُّ نفسه ينبوعًا يروى الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم، مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به، ولا يجد أحدهم متسعًا أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعي، والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها، وكلُّ داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرَّى، وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا، بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، وأقبح القبح الذي يبثُّه في أتباعه؛ لأنه يقول لنفسه: إننا مشغولون جميعًا برمِّ هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم.
وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: إن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلًا للحياة الحاضرة، أو تصحيحًا لبعض أخطاء الحياة الحاضرة، بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالي أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكره قد فسَّر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه.
فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضربًا من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمَّى، ليس له أصل إلا فَوْرة الدم في المحموم. فإذا استمرَّ أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كلُّ شيء، وإذا قُدِّر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها، والتي لقي بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكَّه ومزَّقه، وأقام فيه بناءً قاوم الفناء ثلاثة عشر قرنًا، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة الله ورسوله، لا يغنى غيرها شيء، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء).
وأعود فأقول: من ظنَّ هذا تشاؤمًا وتثبيطًا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئًا أن تقول له: أنت مبصر بعينين لماحتين. ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان.
_______________________
المصدر: «مجلة الرسالة»، العدد (1020)، عام 1953م.