في إطار الاحتفال بـ«اليوم العالمي للغة العربية»، حيث تم إقرارها بين اللغات الست الأكثر انتشارًا، وهي ترتبط بالوحي القرآني المقدس حين نزل على قلب النبي الخاتم بلسانٍ عربي مبين، منذ ذلك الحين حار المستشرقون؛ كيف نشأت العربية وظلت قرونًا بهذا البهاء والثراء والقدرة التعبيرية، فلم يطلها التحريف ولم تعاند أيضاً سُنة التغيير، وكأنها بحق الشجرة الأم للغات.
يعد د. خالد فهمي، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أستاذ اللسانيات بجامعة المنوفية، أحد أبرز المنافحين عن لغة «الضاد»، الذين عكفوا على نشر علومها والإبحار فيها بوصفها مكمناً جوهرياً لهوية هذه الأمة، وإلى جانب محاضراته في فقه العربية، أثرى د. فهمي المكتبة العربية بأعمال تمزج الوعي بمقاصد اللغة والتراث وتفسير القرآن.
حول النهوض بالعربية في يومها العالمي، دار حوار «المجتمع» مع الخبير اللغوي البارز.
ما علاقة اللغة بنهوض الحضارة الإنسانية؟
– هذا المبحث شغل عدة قطاعات من المشتغلين بالعلوم الإنسانية والمعرفية، واتفقوا على أن حضارة الإنسان تطير بجناحين؛ جناح اليد وما تعنيه من صناعة وعمل، ومن قبله جناح العقل وما يعنيه من عالم الأفكار والخيال، والرابط بين الذهن واليد هو اللسان أو اللغة.
المدهش في التصور الإسلامي لقصة الخلق تحديداً، سنرى الاتفاق على أن اللغة الشرط المؤسس القبلي للوجود البشري على الأرض، وليس مجرد الحضارة، وعرف علماء اللسانيات ذلك من تراتبية الخلق الإنساني بدءاً من المشيئة الإلهية؛ (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وصولًا لإنزال الإنسان للأرض لأجل عبادة الله وعمارة الأرض، وكي يحدث ذلك كان لا بد أن يتعلم الإنسان الأسماء كلها من خلال أبيه آدم عليه السلام، فالعمارة تطلبت منهجاً مرتبطاً بهدى إلهي ووحي مستمر للبشرية باللغة العربية.
وفق الشواهد المعاصرة، كيف تصبح اللغة أداة تغيير للواقع؟
– تحمل اللغة العربية قيمًا يمكنها إعادة الأخلاقية العربية بل والحضارة ككل؛ فاللغة تصنع الواقع، وقد طلبت عالمة اللغويات الأمريكية نيروفر حائري، صاحبة كتاب «لغة مقدسة وناس عاديون»، أن يتلو الآباء الرهبان في الكنائس باللغة العربية الفصيحة بديلاً عن العامية، وحين فعلوا، كانت النتيجة أن تأثُّر شعب الكنيسة أصبح أكبر؛ لأنها لغة لها رصيد مقدس عند أصحاب الديانات السماوية، فهم يرون أن تلاوة الكتاب المقدس بالفصحى يعبر عن قداسته، واختتمت الكاتبة بأنه ما دامت «حصة الفاتحة» بتعبيرها، التي تستقبل بها الأم المسلمة مولودها، فإن اللغة الفصحى ستظل حاضرة ولن تنهار.
يحيلنا ذلك لتأمل 3 مدارس في النظر للغة؛ إما أنها مجرد وسيلة للتعبير عن حاجات الإنسان، وبالتالي يرى هؤلاء طرح اللسان العربي طالما أن العامة لديهم مشكلات في التعبير به واللجوء للهجات العامية كما رأينا في دعوات العقود الأولى من القرن العشرين، كما ذهب البعض ومنهم الحقوقي البارز عبدالعزيز فهمي للدعوة للاستناد للخط اللاتيني بديلاً للعربية، وقد نشرت دعوته مؤسسة «البستاني» المسيحية، وهناك مدرسة حداثية غربية ترى اللغة أداة سيطرة؛ والتجلي الأعلى لهذا الأمر هو ما نراه من هيمنة الاستعمار الغربي على لسان الشعوب العربية في بلدان عدة.
والمنظور الثالث الأقرب للمنطق والحق هو التصور الإسلامي للغة باعتبارها مادة صناعة الإدراك والمعرفة، ولو عدنا للنظرية النسبية اللغوية التي وضعها سابيرو-وورف، سنرى كيف أن اللغة تؤثر في نظرتنا للواقع وسلوكنا نحوه؛ وبالتالي فاللغة هي التي تصنع الواقع وليس العكس!
وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجزيرة العربية هادياً لهم ومنذراً بأفعال تستند للهدي اللغوي وليس السيطرة المادية، وقد تغير إدراك الجاهليين للواقع بفضل ذلك الهدي القولي والعملي؛ فأصبحوا ينظرون لأصحاب المهن باحترام بعد أن كانوا يرون العمل اليدوي محتقراً، وقد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الحطب بنفسه لأصحابه، وهو جزء من صناعة العمران، بل إن أنبياء الله كافة كانوا عمّالاً لهم مهن يدوية ومنها رعي الغنم أو صناعة الفلك أو الحديد.
إلى أي مدى تؤدي اللغة دورًا في صوغ شخصية الشاب العربي؟
– إذا أردت أن تكون صحة ابنك قوية، فإنك تطعمه غذاءً صحياً، هكذا اللغة، فإنك حين تضع له رصيداً لغوياً كافياً فإنك تدعم شخصيته وهويته، وقد أقر علماء اللغة بأن المعول الأول لانطلاق اللسان والتعبير هو الرصيد اللغوي، وكلما زاد تصبح ملكاته في التعبير أقوى، يذكرنا ذلك بمجالس الإقراء التي أقامها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسارت الأمة على هديها، وكانت إلى جانب إثراء الأطفال دينياً وتحفيظهم للقرآن، فإنها لغوياً تمنحه رصيداً من آلاف الكلمات الأساسية.
وقد أثبت العلم أن هناك نواقل عصبية في المخ، وبينها طرق جلاتينية تنشأ بما تم حفظه لغوياً في الصغر، ولهذا حثنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نأمر أبناءنا للصلاة من سبع ونضربهم لعشر، وبهذا نكون قد كرسنا في الطريق الجلاتيني ما نريد ترسيخه في قيم الإنسان وشخصيته، ولهذا مهما ضلّ عنها أو تاه بحكم المغريات، فإنه يعود إليها لأنها أصبحت مستقرة في ذهنه ووجدانه، وكأن تعليم اللغة الوطنية القومية المرتبطة بالنظام القيمي الديني يمكن الإنسان من وجود رادع ذاتي، ويمكن الدول والمجتمعات من سهولة ضبط أي انحراف، عبر آلة وجسر وحيد ونعني بها اللغة! لذا فإن كل من يدعون لهدم اللغة هم يدعون لهدم المجتمعات.
هل يمكن أن تؤدي العربية دورًا في تكريس صوتنا عالميًا، فلسطين نموذجًا؟
– بالطبع، لكن حين تكون أمتنا نفسها ناهضة حضارياً وتقنياً أولاً، لأن اللغة انعكاس لقوة الأمة الحضارية، فالعالم يسارع لترجمة لغة القوي ولا عزاء للضعفاء والتابعين للركب! ومهما تحدثنا عن عدالة القضية الفلسطينية وعن جرائم الإبادة التي تمارسها «إسرائيل»، فإن الرأي العام العالمي لن يستمع لنا إلا لو حدثناهم بلغتهم هم، لأننا لسنا في موضع قوة تشبه ما هي عليه اللغة الصينية والروسية والإنجليزية، فهذه هي اللغات المعبرة عن الأمم المتقدمة حضارياً التي تتلقف وكالات الأنباء العالمية خطاباتهم ومنطقهم.
في رواية «اسم الوردة» لامبرتو إيكو، والمترجمة للعربية، سنرى كيف يفكر المحقق في جريمة مقتل مدير مكتبة كاتدرائية في شمال أوروبا بالعصور الوسطى، مؤكدا أنهم سيختارون عالماً بالعربية ليخلف أمين المكتبة المغدور، لأنه العرف وما تقتضيه وظيفته، لأن مكتبة الدير كان 70% من مراجعها بالعربية، ولهذا فالوضع الحضاري هو ما يحدد اهتمامات الشعوب.
وبرغم ما ذكرناه، فإن النموذج البطولي والأخلاقي الذي برز للمقاومة الفلسطينية الذي أصبح مثار إعجاب أحرار العالم، هو ما فرض قوته وسطوته العابرة للحدود أمام توحش الآلة العسكرية «الإسرائيلية»، وأصبح قادة المقاومة يتحدثون في أي عاصمة عالمية بلغتهم العربية الفصحى وتتلقفها الوكالات.
كيف يمكن أن تقود اللغة لخطاب دعوي إسلامي فاعل؟
– كلما كانت اللغة واضحة مفهومة ومبينة وعصرية، ستكون جسراً للتواصل الفعال بالآخر، وبما في ذلك مجال الدعوة الإسلامية، وهكذا فعل أشهر الدعاة ومنهم الشيخ الشعراوي رحمه الله.
وهناك مستويات للغة؛ فأنت كداعية لا يمكن أن تخاطب الجمهور بعربية فصحى مرصعة بالتعبيرات البلاغية والمعجمية الصعبة، بل إنك تختار لهم العربية الصحيحة المفهومة بيسر تماماً كما يفعل القاضي حين ينطق بالحكم مثلاً ويفهم الجميع، والأعمال الدرامية العظيمة كفيلم «الرسالة» و«عمر المختار»، بل وحتى النشيد الوطني الذي يتغنى به الطلاب في مدارسهم، والحل دائماً ليس التحوّل إلى العاميات المبتذلة، ولكن اختيار الفصحى الملائمة للجمهور المستهدف، فهناك لغة تصلح للساحات الأكاديمية، والعلمية، والثقافية، والأدبية، وفصحى أخرى أقرب للجمهور العام.
ما جديدكم في محراب اللغة العربية الأم؟
– أنجزت كتاباً جديداً هو «لسان اللاهوت الإسلامي والمسيحي واليهودي في العربية»، ويقوم على فكرة أن اللغة العربية تسامحت مع أهل الديانات السماوية فمكنتهم من نشر تراثهم الاعتقادي الديني عبر العصور، كما أن القرآن الكريم متسامح مع حرية التدين، وأعكف حالياً لدراسة المصطلح الصهيوني المراوغة، فالمعاجم الوطنية يمكنها أن تسهم في مقاومة المحتل.