لا شك أن ما جرى في سورية خلال الأيام القلائل الماضية نصر مبين أزال الله تعالى به رأس الطغيان في سورية بعد أن عاث في الأرض فساداً، وأهلك الحرث والنسل، وأخرج الله بفضله المظلومين من سراديب الموت وأقبية التعذيب ومسالخ البشر، ففرّج كربهم وأعادهم إلى الحياة بعد أن فقد بعضهم عقله وعمره وإنسانيته، وأعاد الله به المهجرين والمطاردين إلى ديارهم بعد أن طال بهم الشتات، ونال منهم الاغتراب وتطاول عليهم بعض النكرات!
لا شك أن توحيد الفصائل في مواجهة الطغيان وتعاونهم في تطهير البلاد منه وتعاليهم على كثير من النزاعات والخلافات والافتراق والاحتراب يعد نصراً مبيناً، إلا أن هذا النصر سرعان ما يمكن أن يتبخر ما لم ينتج فتحاً.
بين النصر والفتح
النصر يكون بهلاك الأعداء وغلبة أهل الإيمان وتحرير البلاد واستعادة كرامة الإنسان، أما الفتح فيكون بفتح القلوب وغرس العقيدة واستقرارها في النفوس وتعميق الإخوة وحماية المكتسبات، والمحافظة على ما تم من إنجازات، قال تعالى ممتناً على النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر: 1)، وقد جمع الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم النصر والفتح في تلك المرحلة على وجه الخصوص.
النصر يكون بهلاك الأعداء وغلبة المؤمنين أما الفتح فيكون بفتح القلوب وغرس العقيدة واستقرارها
النصر إعانة على تحصيل المطلوب، والفتح تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، فالنصر كالسبب للفتح، فلِهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
النصر قد يتحقق بالقوة، ولكن الفتح يحتاج إلى العلم والإدراك والأخذ بسنن التمكين، فقد أهلك الله تعالى فرعون وجنوده أجمعين، وتحقق لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام نصر مبين، ولكنهم لم يتحققوا بمتطلبات الفتح فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة، قد يتحقق النصر في مرحلة من المراحل، ولكن الفتح يتطلب جهداً مستمراً وسعياً دائماً، فالنصر لحظة، بينما الفتح عملية ممتدة تحتاج إلى تخطيط وعمل مستمر لإزالة العقبات وتثبيت الحقائق.
متطلبات النصر ومعالم التمكين
تتبلور متطلبات النصر ومعالم التمكين في نقاط نذكر منها ما يلي:
– تحقيق الأخوة والمصالحة المجتمعية:
النصر يهزم الأعداء، ولكن الفتح يهزم الكراهية والشرك في القلوب، قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
من أبرز متطلبات الفتح المبين إزالة العوائق التي تحول دون انتشار الدِّين أو تحقيق غاياته الكبرى
فلا بد أن نفهم أن النصر هو البداية وليس النهاية، علينا أن نسعى لتحقيق الفتح بمعناه الشامل؛ فتح القلوب للحق، وفتح العقول للعلم، وفتح المجتمعات للعدل، ويتحقق ذلك بالعمل على إصلاح العلاقات الاجتماعية، وإزالة الظلم، وتعزيز العدل بين الناس، وتحقيق العدل والمساواة في جميع المجالات؛ لأن الظلم يحول دون تحقيق الفتح.
فقد ينتصر المؤمنون على أعدائهم، ولكن إن لم يعملوا على إصلاح القلوب والعقول والمجتمعات، فإن النصر يتحول إلى لحظة عابرة قد تضيع ثمارها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ بدخول مكة منتصراً، بل أعلن العفو العام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»؛ ما مثّل فتحاً للقلوب قبل فتح الأرض.
– إزالة العوائق:
من أبرز متطلبات الفتح إزالة العوائق التي تحول دون انتشار الدِّين أو تحقيق غاياته الكبرى، فيجب على الأُمَّة أن تسعى لتحقيق الفتح بمنهجيَّة أعمق من مجرَّد تحقيق النصر؛ فهو عمليَّة إزالة الحواجز التي تمنع تحقيق أهداف الدَّعوة، وإصلاح النفوس والمجتمعات، وترسيخ القيم الإسلاميَّة.
الفتح الذي نتغياه يتطلب استقلالاً تاماً ورفضاً للتبعية فالمتربصون يحيطون بالسلطة الجديدة
فتح مكَّة مثال حيّ على هذا المفهوم؛ حيث لم يكن الفتح مجرد استعادة مدينة، بل كان مرحلة لإزالة الشِّرك، وإقامة دعائم التوحيد، ونشر الرحمة والعدل بين النَّاس.
وما أكثر العوائق التي تركها الطغاة في طريق الفتح، وما أكثر الفخاخ التي نصبوها في كل مجال من مجالات الحياة، ويستوجب هذا عملاً مضنياً، وجهداً فائقاً، وحسن توكُّل على الله تعالى.
– الحماية من الأخطار:
الفتح الذي يجب أن يسعى إليه كل من يحب سورية، ويحب لها الخير يتمثل في العمل على الحماية الفكرية من أخطار الفكر المتشدد، الذي لا تخفى آثاره داخل منظومة الثورة، فهو سرطان إن لم يتم معالجته أو استئصاله سيصيب البدن كله وينهكه في معارك مصطنعة لا نهاية لها.
الفتح يتمثل في قطع دابر الفساد، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أطلق النداء الخالد يوم «فتح مكة»: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، هو الذي أهدر دماء أكابر المجرمين حتى لو تعلقوا بأستار الكعبة، فقد أعطى الأمان للناس جميعاً، إلا أربعة نفر وامرأتين، قال: «اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة»؛ عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح.
الفتح يتحقق بنجاح المنتصرين في إقامة نظام شوريٍّ حقيقي وليس مجرد ممارسة شكلية
وقال الله تعالى في كتابه الحكيم: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8)، فليس من المقبول أن يُخلع فرعون ويسمح لكل هامان فاسد وجندي قاتل أن يستكمل مسيرته؛ لأن هذه النماذج مشوهة نفسياً، فلا يمكن لعاقل سويّ أن يُنكِّل بمعارضيه بتلك الصورة التي تتبرأ منها الحيوانات والوحوش!
– الاستقلالية ورفض التبعية:
الفتح الذي نتغياه يتطلب استقلالاً تاماً ورفضاً للتبعية، فالمتربصون يحيطون بالسلطة الجديدة، يتسابقون أيهم يمسك بزمامها، وأيهم يحولها لتكون خادمة لمشروعه ومحققة لآماله، إن النظام الدولي والدول التي تدَّعي التحضر كانت تدعم بشار الأسد إلى آخر لحظة، مع كمال علمها بفساده وطغيانه ووحشيته، ولم تستيقظ فيهم الإنسانية فجأة، بل هي لعبة الأمم التي صنعوها ويريدون أن يدور العالم كله في فلكها.
لذا، على الثوار أن يحققوا الفتح بفهم الواقع، ورفض التماهي مع كثير من مفرداته وإكراهاته، والحق أبلج والباطل لجج، وليوقنوا من القانون القرآني: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء: 81).
– الشُّورى والعدالة معالم الفتح:
الفتح يتحقق بنجاح المنتصرين في إقامة نظام شوريٍّ حقيقي، وليس مجرد ممارسة شكلية، تشارك فيه الأمة بفاعلية ومسؤولية؛ فالاستبداد ظلم لا دين له، فإذا لم نحقق الشورى بآلياتها وفق المنهجية القرآنية وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصبحنا نموذجاً آخر من نماذج الفساد التي قامت الثورة عليها، والاستبداد باسم الدين أشد خطراً من الاستبداد باسم المصلحة والمنفعة والقوة!
العملُ المؤسَّسي:
تحقيق الفتح يتطلب وجود مؤسسات جماعية تعمل بروح الفريق لتحقيق الأهداف، والابتعاد عن الفردية والانفراد في اتخاذ القرارات، والاعتماد على الشورى والعمل الجماعي.
تحقيق الفتح يتطلب وجود مؤسسات جماعية تعمل بروح الفريق لتحقيق الأهداف والابتعاد عن الفردية
كما يتطلب ذلك مراعاة التخصصية في الحكم؛ وهذا من أبرز معالم الفتح المبين، فلنحذر من إسناد الأمور إلى غير أهلها؛ فليس كل من يصلح للقيادة العسكرية يصلح للعمل السياسي، وليس كل من لديه إمكانات علمية شرعية ودعوية صالحاً للمعترك السياسي والإداري، فالاحتراف مفتاح النجاح، واكتشاف طاقات الأمة واستنهاضها واستثمارها هو التمكين الحقيقي.
وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم المنهج الرشيد الذي نفذه ذو القرنين، ليكون نموذجاً يحتذى به في استثمار الطاقات، واستنهاض الهمم، والإفادة من كل الإمكانات.
– الجهاد التربوي والدعوي:
الفتح الذي نتطلع إليه هو انحياز المؤسسات الدعوية والتربوية إلى خندق العقيدة والثوابت والقيم، فتعلن فيها الأمة جهاداً نوعياً، إنه الجهاد القرآني الذي أمر الله تعالى به عباده فقال سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان: 52)، فلتنطلق كتائب الفتح الفكري تصحيحاً للمعتقدات، وتأكيداً على الثوابت، ومعالجة لآثار الشبهات.
الفتح الذي نتطلع إليه هو انطلاق الدعاة الصادقين والتربويين الربانيين في ربوع البلاد، يمسحون على القلوب الملتاعة والنفوس المأزومة بنور الإيمان، ولطائف التقدير، وسابغ الرحمات، وفيوضات القرآن.
الفتح الذي ننتظره يتمثل في حمل رسالة الإسلام بتطبيقات سلوكية راقية، تظهر في التعالي على الإغراءات، والصمود أمام العقبات.
– تصحيح المفاهيم:
الفتح الحقيقي يحتاج إلى عقول واعية ومثقفة، لذا يجب أن يكون هناك وعي بمشكلات المجتمع وحلولها المستمدة من القرآن والسُّنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (متفق عليه).
وإزالة الأفكار المغلوطة وتصحيح الفهم بشأن القضايا الكبرى، مثل: العدالة، والحرية، والتعايش، وغرس القيم الإسلامية التي تدعو إلى الإصلاح والبناء وليس الهدم.