لم تعد قضية فلسطين خافية على أحد، فلقد امتلأت الأجواء بضجيج الأمواج اللاسلكية حاملة على أجنحتها أخبار فلسطين وأنباءها، وأصبحت ثورتها حديث الناس في مجتمعاتهم وأنديتهم ومجالسهم، حازت إعجابهم إعجاباً أحاطه عطف وشعور وإشفاق، وقال الناس للناس: ألم تروْا كيف عرف عرب فلسطين طريق الحياة فشقوها، وقاموا بالمعجزات في نهضتهم، وضربوا المثل الأعلى في التضحية، ودقوا باب الحرية باليد المضرجة، فأعلنوا سخطهم على سياسة الانتداب بالإضراب العام الشامل والاضطراب؛ وقد مر عليهما ما يقرب من 6 أشهر، وهم معطلون أشغالهم ومصالحهم، ثائرون في سبيل قضية إنسانية عادلة -قضية الدفاع عن الكيان- ناقمون على من يريد إذلالهم وإخضاعهم، عازمون على مواصلة الكفاح، إلى أن يحق الله الحق، وإلى أن ترجع بريطانيا عن نواياها نحو بلادهم.
لفتت قضية فلسطين أنظار العالم، وتطلع إليها، فشملها المسلمون بعطفهم والعرب بتأييدهم، وامتلأت نفوسهم آلاماً لما أصاب عرب الأرض المقدسة.
وقاموا متضافرين غاضبين من أجلهم يناصرونهم ويدعون إلى إنصافهم ومساعدتهم، وعقدوا الخناصر على صيانة فلسطين وحفظها، فقويت الأواصر بينها وبين البلاد المحيطة بها، وتوثقت العُرى واشتبكت الوشائج، وتعهد ملوك العرب وأمراؤهم ورجالات الإسلام بقضية فلسطين تعهداً يرفع عنها الظلم النازل بها ويضمن لها كيانها العربي ويدفع عنها أي اعتداء على مقدساتها، تعهداً أخرج فلسطين من حيزها الضيق إلى حيز العالم العربي، فأصبحت بذلك جزءاً من القضية العربية الكبرى وعاملاً من عوامل السلام في الشرق العربي.
هذه هي الثمرة الأولى التي جنتها فلسطين من ثورتها وغضبتها وما كان لهذه الثورة أن تثمر هذه الأثمار لولا خاصيتان امتازت بهما على غيرها من الثورات:
الأولى أنها امتازت بالشمول، إذ اشترك فيها جميع الطبقات كل بحسب دائرة اختصاصه، ولم يحن الوقت لتفصيل ذلك، ولولا هذه الخاصية لما كانت حركة فلسطين على ما هي عليه من القوة والعزيمة والمضاء.
والثانية أنها امتازت بالسموّ، وهذه الخاصية هي التي أكسبت الثورة روعتها وجلالها وقدسيتها وجعلتها محل إكبار الشعوب وموضع دهشتهم، فقد سمت النفوس وبعدت عن الأهواء والغايات الشخصية واعتنقت مبادئ الثورة المقدسة، فإذا العربي في فلسطين يسمو بنفسه ويرتفع بها إلى العلاء، وإذا هو في جوّ من الروحانية نزع الأحقاد من الصدور وأحل الوئام محل الخصام ونشر ألوية المودة والمحبة والرغبة في التعاون بين الناس.
وإذا هو لا يرى في سماء بلاده إلاّ أرواح الصحابة والصديقين والشهداء، ولا يرى في أرض بلاده إلاّ دماء هؤلاء مبثوثة بين ذرات التراب، وإذا العرب في فلسطين اليوم غيرهم بالأمس، شغلهم الإخلاص وشغلهم حب الوطن فشغلوا العالم بما شغلهم وقالوا قولاً صريحاً إلى الأجيال لا غموض فيه ولا التواء:
لن تكون فلسطين وطناً قومياً لليهود..
ولن يكون في فلسطين وطنٌ قوميّ لليهود..
_______________
من كتاب «مجلة الرسالة».