مثلت الحاضنة الشعبية في استقبال الثوار الفاتحين في المدن السورية نموذجاً لما يجب أن تكونه الحاضنة الشعبية الملائمة والمناسبة، فقد استقبلوا الفاتحين لتخليصهم من المستبد الطاغية الجزار، ومن هنا فإن استمرار هذه الحاضنة والحفاظ عليها خاصة في عملية البناء مسألة غاية في الأهمية، وهي تحتاج إلى البناء والدعم والاستمرارية والنماء، كذلك من المهم أن نهتم بخريطة الأسئلة ومسار الضروري منها، ذلك لأن الأسئلة الصحيحة هي نصف الإجابة، وغالب النصف الثاني يتمثل في توجيه السؤال إلى الشخص المناسب؛ وكذا فإن مبادرة الشباب وفتوتهم توجب استطلاع رأي الشباب أمر غاية في الأهمية، فهم أبرز من شارك بالثورة ويريد نجاحها وهم سواعد البناء والعمران؛ دعونا مرة نكون صادقين في تمكين الشباب كأحد أهم إستراتيجيات التغيير القادم.
ومن المهم أن نفهم حقيقة المجتمع وعناصره وواقعه؛ المجتمع في جوهر تحولاته ومتغيراته لا يشكل صفحة بيضاء، كل أخطاء الثورات العربية أنها تصورت نفسها تدخل على كتاب صفحاته بيضاء، وهو أمر خاطئ تماماً، فالصفحات مسودة، وفيها صفحات منزوعة، وفواعل وأطراف عدة شاركوا من قبل في تسويد صفحات الكتاب، بل والشخبطة فيه وطمس بعض سردياته والتهويل لسرديات أخرى، وخاصة سردية الطغيان والطاغية وشبكاته في الاستبداد والفساد.
المجتمع المتنوع يحتاج الى خطاب متعدد، الصفحة الجديدة لها ما لها من كتاب الثورة أو كتاب التحرير؛ ومن ثم يجب أن نسأل أنفسنا الأسئلة الصحيحة؛ هذا المجتمع السوري يتكون فيه الكثير من الأمور والخرائط التي يجب أن نتعرف عليها، نحتاج لبناء الخرائط خرائطه المناطقية، والمذهبية، والسياسية، وخرائط شبكاته الاجتماعية، وخرائط الفاعلية، وأدوات التغيير، وخرائط التحديات وضرورات بناء الاستجابات، وخرائط الإستراتيجيات وبناء السياسات.
مما يسهم في بناء عقل إستراتيجي للثورة السورية، عقلًا يفكر في الجوانب المختلفة للظاهرة أو الظاهرة، يرصد مستوياته الإستراتيجية، ويمد أصحاب الثورة بكل الأفكار اللازمة لعملية التغيير في هذا الشأن وعلى هذا الأساس، ويبني ويفعل الإستراتيجيات اللازمة من مثل إستراتيجية الجامعية والتماسك المجتمعي، إستراتيجية معاش الناس، إستراتيجية الخطاب المتنوع والجامع في ذات الوقت، الذي لا يقوم على الاستبعاد على أحد، وإنما يقوم على الاستيعاب لكل أحد، الانتظام السنني في قوانين الاجتماع والتعدد والاختلاف والتنوع والمشترك وقوانين التعايش والاعتصام المبني على توازنات وموافقات تمثل المعايير والأصول وتوافقات عقدية وتحالفات كل ذلك ضمن سياقات مجتمعية لبناء عقد اجتماعي جديد، مفاده الاستيعاب لا الاستبعاد.
هذه الرؤية الكلية تحتاج أن تسكن الانتقال السياسي في محضن الانتقالات الأخرى وعلى رأسه الانتقال المجتمعي بما يشكل الأساس في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية والمجتمعية من جديد بعد تمزيقها من خلال سياسات الاستبداد في الفرقة مقترنة بسياسات التجويع والترويع، إنها صنعة الاستبداد لإضعاف المجتمع في مواجهة السلطة.
إن تأمين علاقة سوية متوازنة بين الدولة والمجتمع لهو الحل الناجع، ومن هنا يجب أن تؤسَّس إستراتيجيتان؛ الأولى: تمكين المجتمع وتحصينه ضد محاولات الاستبداد ليست السابقة فحسب، بل واللاحقة من آليات مراقبة مجتمعية ومحاسبة مؤسسية تملك كل أصول الفاعلية والتأثير، الثانية بتفكيك كل مفاصل السلطة الاستبدادية بعمل يزيح كل تلك المواطن الاستبدادية من طغيان أو عدوان، ترافقها في الوقت نفسه عملية بنائية تبني آليات تكوين وتمكين أهل حل وعقد يملكون القدرة والحصانة وإمكانات المراقبة والمتابعة والمحاسبة والمراجعة وذلك ضمن قانون الانتظام السنني؛ «نحن لن نستبدل طاغية بطاغية ولا احتلالاً باحتلال».
ومن ثم، فإن العمل الأساس والضروري عدم الانشغال بالأمور الكلية أو النهائية في هذه المرحلة، والمراحل الانتقالية فكرة مهمة ومعمل اختبار حقيقي، من رأس الدولة إلى أصغر مكان أو فرد، ضمن قانون انتظامي سنني «ما يصلح لإدارة الاستثناء لا يصلح لإدارة الاستقرار والعكس صحيح»، ومن هنا يجب ألا نتحدث عن دستور دائم، ولكن يكفي أن نعتمد على دستور انتقالي (15 -20 مادة) فيه الحقوق والحريات والأحوال الشخصية، وذلك لأن مراحل الاستقطاب لا تصلح لكتابة الدساتير الدائمة.
ما ينطبق على الدستور ينطبق أيضاً على الانتخابات، ومن ثم فمن الضروري الاعتماد على مجلس رئاسي لفترة مؤقتة يستند إلى قانون التعاقد وصياغاته والشورى كقيمة أساسية من المهم ترجمتها على أرض الواقع والميدان، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور الواحد، ويشاور الاثنين، ويشاور الثلاثة ويشاور الجماعة، الشورى فعل متحرك ديناميكي (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، فكل مجتمع يفرز أهل حله وعقده، قانون انتظام سنني آخر وجب علينا اعتباره؛ «كل مجتمع يفرز أهل عقده وحله، وكل ولاية بحسبها».
فكرة المجلس الرئاسي وأهميتها في إدارة الاستثناء، من الممكن أن يكون هناك تعدد في المجلس الرئاسي، يقوم المجلس الرئاسي على ما يمكن تسميته تعاقد الحد الأدنى، وهذا الحد الأدنى لا يمكن التنازل عنه ضمن عقد اجتماعي جديد، المجلس الرئاسي يدير هذه التنوعات، يسد مداخل الاستبداد في المراحل الأولى للثورة، يحقق معانى الاجتهاد الجماعي والشوري في عملية البناء ويعين منظومة الأوليات التي تحدد الإجابة عن تساؤلين؛ ما العمل؟ ومن أين نبدأ؟
كما أنه يسمح باستثمار الاختلاف وتوزيع الأدوار، وإعمال للتداول والجمع المؤسسي بين قيادة مشتركة، وعليه أن يتبنى إستراتيجية خطاب ديناميكي متحرك؛ بحيث يتطور وتتسع مساحاته بالتدريج كما تتسع دائرة التعاقد، ويوسع دائرة الاتفاق، بما يقوم به في سياقات تعتمد المحتوى وتعدده، والخطاب وتنوعه، وذلك لضبط ما يمكن تسميته بـ«وعد الثورة»؛ أو ما يعرف بثورة التوقعات.
ويجب التعامل معها بحرص وحذر؛ لأنها تتعلق بطلبات الناس وذلك من خلال حصر هذه الطلبات وبناء خطة إستراتيجية لتنفيذها من خلال تحديد الأولويات، والانتقال من الإيجابي إلى البنائي، من خلال عملية تخصيص وتحديد وشفافية ووضوح، وذلك ضمن قانونين يشكلان انتظاماً سننياً؛ الأول: لا بد لكل ثورة من وعد، والثاني: يتعلق بأن الاختلاف سُنة إلهية، والمهم في ذلك اعتباره في إدارة الاختلاف والتنوع وإدارة المتعدد والمشترك والتعايش.
كل ما سبق يسهم في الإدارة الفاعلة للمرحلة الانتقالية والمرور بالثورة إلى بر الأمان، إلا أن معيار ضمان نجاح هذه المرحلة يعتمد على تبنيها الإستراتيجية القرآنية (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 4)؛ وهو ما يحتاج إلى تحالف وثيق وأمين بين مؤسسات الأمة ومؤسسات الدولة والسلطة؛ لأن مؤسسات الأمة هي الضامنة لتأسيس بنية تحتية لحركة التحرير والتغيير والبناء.
وذلك في ظل الجمع بين شبكية المجتمع وعلاقاته في ضوء نظرية الصحة والصلاحية في بناء النظم والمؤسسات وفق ما أشار له مالك بن نبي في قوانين «الصحة والصلاحية»؛ وذلك لأنه ليس المهم هو استيراد أو استدعاء أفكار صحيحة، ولكن الأهم من أنها صحيحة أن تكون صالحة مكاناً وزماناً، ذلك لأن مرحلة الاستثناء لها طبيعتها الخاصة فهي غالباً ما تكون محاطة بحالة استقطابية يهيمن فيها الصراع وتتفكك القوى وتعم الفوضى، فتقعد عن عملية البناء وتصادر الجهود في التعمير والتثمير، وذلك ضمن قانون انتظامي سنني جامع بحق الثورات؛ المراحل الانتقالية وسوء إدارتها مناط إضعاف الثورات، والاستقطابات مقبرة الثورات.
حديث المرحلة الانتقالية في الحالة الثورية السورية، وفي كل الأحداث المشابهة لا يزال في حاجة إلى مزيد من الاجتهاد والعمل، من وعي رشيد وسعي سديد.