اللغةُ هي لسان الأمة، وعماد شخصيتها، وأساس هُويتها.. وتزدهر الأمة ما صانت لغتها وما يتصل بها من حفظ تراثها، وخلق قنوات اتصال مع لغات الأمم الأخرى للإفادة من منجزاتها الحضارية.. وقد اُخترعت لتلك الأغراض المجامع اللغوية، وهي مؤسسات علمية تُعنى بشؤون اللغة، مصطلحًا وتعريبًا وترسيخًا وصناعة أفكار، فغدت ضرورة وليست ترفًا كما يراها البعض.. وقامت المجامع اللغوية العربية على هذه الأسس؛ لخدمة العربية ورعايتها، وتنمية الفكر المتصل بها، وصقله وتهذيبه، وقدّمت في ذلك خدمات جليلة، وكان لها فضلٌ ملموس في توكيد موقع اللغة في المجتمع، وفي حفظ هويتها وتاريخها وعلومها، والبحث في كل ما من شأنه تقدمها وازدهارها، وإثبات خصوبة ومناعة تراثنا العربي الأصيل.. إلا أن هذه الأدوار المهمة لتلك المجامع، والتي انطلقت قوية فتية، سرعان ما خفتت لظروف عدة ألمّت بمجتمعاتنا؛ ما يتطلب توصيف أزماتها ووضع الحلول العاجلة لها.
نظرة تاريخية
مع بدء النهضة الثقافية العربية المعاصرة، في العقد الثاني من القرن العشرين، بدت الحاجة ملحّة إلى الرعاية والاهتمام باللغة العربية، فأُنشئت لذلك المجامع اللغوية، التي وضعت من بين أهدافها العمل على تطوير اللغة، ووضع المصطلحات والاشتقاقات لمجاراة المستحدثات العصرية ومواكبة ركب الحضارة، وتقديم الدراسات والأبحاث التي تسهم في تنمية اللغة وتيسير تعلُّمها.. أُنشئ أول مجمع للغة العربية في دمشق عام (1919م)، أسسه «محمد كرد علي»، تلاه مجمع اللغة العربية بالقاهرة (عام 1932م)، ثم مجمع اللغة العربية ببغداد (عام 1947م).
وقد اجتمعت المجامع الثلاثة (عام 1971م) فيما أسموه «اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية»؛ من أجل التعاون وتنسيق الأعمال فيما بينها.. وكانت الإدارة الثقافية بـ«جامعة الدول العربية» قد عقدت مؤتمرًا (عام 1956م) كان من توصياته تأسيس هذا الاتحاد، إضافة إلى توصيات متعلقة بوسائل ترقية اللغة، وتشجيع التأليف والترجمة، وتحقيق ونشر المخطوطات.
تم توالى تأسيس المجامع؛ فتأسس مكتب تنسيق التعريب بالمغرب (1970م)، ومجمع اللغة العربية الأردني (1976م)، والمجمع التونسي للعلوم والآداب (1983م)، ومجمع اللغة العربية السوداني (1993م)، ومجمع اللغة العربية الليبي (1994م)، والمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر (1996م)، ومعهد اليمن للغة العربية (2007م)، ومجمع اللغة العربية بحيفا (2007م)، ومجمع اللغة العربية الافتراضي بالمدينة المنورة (2012م)، ومجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية بمكة المكرمة (2012م)، ومجمع الشارقة (2016م)، ومجلس اللسان العربي بموريتانيا (2017م)، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية (2020م)، ومركز أبو ظبي للغة العربية (2020م)، ومجمع اللغة العربية بلبنان (2022م).
جهود وإنجازات
مهام وإنجازات كبيرة أدّتها هذه المجامع على مدى عقود، ولا تزال تقدم خدماتها لحماية العربية ومواكبة التطور اللغوي والتقني.. ولقد تحقق –من دون شك- كثيرٌ من أهدافها من حيث الوفاء بمطالب العلوم والفنون العصرية، وإحياء التراث العربي، ووضع المعاجم اللغوية والعلمية المتخصصة، ونشر البحوث والدراسات وعقد الندوات والمؤتمرات التي تتصل بأغراضها؛ فضلًا عن نشر الوعي اللغوي والنهوض بالفصحى وتبسيطها، وإتاحة الفرص للانفتاح على اللغات الأخرى وتحولاتها، وغيرها من الأنشطة الثقافية التي تهدف إلى الحفاظ على تراثنا اللغوي وإحياء الممات والحوشي والمهجور؛ بما يضمن لها الحيوية والنماء، ومسايرة مستجدات العصر، ومقاطعة الدخيل عليها.
ولعل أعظم منجزات هذه المجامع ما نشرته من معاجم لغوية عامة ومتخصصة، وما أصدرته من كتب ضمن مجال إحياء التراث، غير مجلّاتها ودورياتها المفيدة للعامة والمتخصصين.. ولا شك أن هذه الأعمال احتاجت إلى جهود عظيمة لتخرج إلى النور، فجمّعت بذلك أرباب اللغة ومهرتَها، الذين نسّقوا الأدوار والمسئوليات، وحددوا الإيجابيات والسلبيات؛ لينفوا عن اللغة ما يهددها من أخطار، وما يصيبها من ملوّثات.. إلا أن كل ذلك لم يمنع وجود مشكلات وأزمات تكبّل هذه المجامع في أداء أدوارها.
إشكاليات وحلول
يرصد المهتمّون بأمر هذه المجامع عددًا من الإشكاليات تتمثل في: انحسار دورها في حماية وتطوير اللغة حتى غدا دون طموحات أبنائها، الذين يؤكدون غياب هذه المجامع عن المعترك اللغوي الراهن، وتقاعسها في القيام بمبادرات لمواجهة أزماتها الحالية، ومنها: ضعف تمويل هذه المؤسسات مقارنة بحجم الجهود الملقاة على عاتقها؛ وعدم استيعاب الكم الهائل من المعارف والمصطلحات العصرية؛ وعدم التصدي لأخطار الاستخدام المكثف والغزو الثقافي للغات الأخرى واللهجات المحلية على حساب الفصحى، في واقع تهيمن عليه وسائل التواصل الاجتماعي والثورة الاتصالية التي جعلت العالم قرية صغيرة.. ويضع المهتمون بشأن هذه المجامع عددًا من التوصيات لإخراجها من حالتها التقليدية إلى المكانة التي تليق بتطورات العصر ومستجداته؛ منها:
– في الجانب السياسي: أن تُعطَى هذه المجامع بعض السلطة السيادية؛ بأن تكون قراراتها ذات هيبة، ملزمة للجهات المسئولة، وأن يكون لها تمثيل داخل الأنظمة والحكومات يضمن الأخذ برأيها في قضايا وأمور اللغة؛ وأن يقوم اتصال وتعاون رسمي بين هذه المجامع، من خلال «جامعة الدول العربية» مثلًا.
– في الجانب التنظيمي: إفساح المجال للشباب المتميزين للحصول على عضوية هذه المجامع، وتجديد هذه العضوية بشكل دوري وبآليات تضمن الحفاظ على هيبتها وجسامة دورها؛ والسعي لتكوين هيئات ولجان ذات سلطة تضمن تنفيذ قراراتها وتطبيق لوائحها؛ ومن الواجب أيضًا تعزيز الجانب الإعلامي لهذه المجامع، بما يليق بمكانتها الثقافية وأهمية تواجدها على الساحة.
– في الجانب الفني: إعادة النظر في البنية الثقافية لهذه المجامع، ومناهجها التقليدية، بما يتماشى مع ما يشهده العالم الآن من ثورات ثقافية؛ كما عليها عبء تطوير اللغة، من خلال برامج وأدوات عصرية، بتبسيطها وتقريبها إلى أذهان «جيل الإنترنت» قبل أن تكون فوضى لغوية.