خلال 11 يوماً فقط من إطلاق عملية «ردع العدوان»، وبتضافر عوامل عديدة داخلية وخارجية، دخلت قوات المعارضة السورية وفي مقدمتها «إدارة العمليات العسكرية» العاصمة السورية دمشق، وفرّ بشار الأسد وأركان نظامه الرئيسون، ليسقط النظام وتبدأ في سورية مرحلة جديدة مختلفة بالكلية، مرحلة انتقالية تحدث عنها أحمد الشرع، رئيس «هيئة تحرير الشام»، قائد الإدارة الجديدة في البلاد، تمتد على مدى 3 أشهر بحكومة تسيير أعمال وتهيئة الأرضية لإقامة نظام سياسي ودستور جديدين.
تحديات كثيرة تواجه السوريين في المرحلة الجديدة، الانتقالية وما بعدها، إذ ترك النظام السابق بلداً مهدّماً واقتصاداً منهاراً وشعباً مسحوقاً يتوزع أغلبه بين الموت والنزوح واللجوء والسجون، إضافة للتقسيم الفعلي للبلاد التي تتواجد على أراضيها قوات عدة دول.
كان لتركيا دور بارز في إدارة العلاقات السياسية مع الأطراف المختلفة بعد انطلاق «ردع العدوان»
في مقدمة التحديات المستقبلية ما يرتبط بالاقتصاد وحياة المواطنين اليومية، وهو أمر متوقع بعد عقود طويلة من حكم نظام أمني بامتياز ومغلق بالكلية، فضلاً عن سنوات الثورة والثورة المضادة والاقتتال الداخلي والتدخلات الخارجية، ورغم ذلك، فالتحديات السياسية والعسكرية والأمنية تبدو أكثر إلحاحاً وأهمية وأولوية، في ظل وجود «خارجٍ» متحفز ومتوجس من الإدارة الجديدة، حيث ما زالت العديد من الأطراف الخارجية إما تنظر لـ«هيئة تحرير الشام» كمنظمة إرهابية أو كطرف غير معروف التوجهات على أقل تقدير.
ومن هنا يمكن فهم الحراك الدبلوماسي والسياسي الحثيث الذي بدأ منذ اللحظات الأولى لانطلاق العملية وتهاوي جبهة النظام، فضلاً عن اللقاءات السياسية المتكررة بين عدد من القوى الإقليمية والدولية، وحالة الوصاية التي تحاول بعض الأطراف فرضها على سورية الجديدة.
يضاف لكل ما سبق تواجد عدد من المجموعات المسلحة في سورية، وإن امتلكت «إدارة العمليات العسكرية» الجزء الأقوى والأكبر منها، ووجود قوات وقواعد عسكرية لعدد من الدول على الأراضي السورية، فضلاً عن المناطق التي تسيطر عليها «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) شمال شرق سورية بدعم أمريكي مباشر.
وكأن كل ما سبق لا يكفي كتحديات أمام وحدة أراضي سورية واستقلالها وسيادتها، استغل الكيان الصهيوني المتغيرات في سورية والفراغ الحاصل ليفرض أمراً واقعاً سيئاً، تمثل بإعلانه انهيار اتفاق «فض الاشتباك» الموقع في عام 1974م، وتوغله في المنطقة العازلة التي فرضها الاتفاق، فضلاً عن قصف وتدمير معظم الأسلحة السورية من طائرات وسفن وصواريخ إستراتيجية ومختبرات ومستودعات.
وعليه، يكون التحدي الأكبر والأبرز والأخطر على سورية في المرحلة المقبلة هو سيادتها ووحدة أراضيها، فكيف يمكن أن تؤدي تركيا أدواراً مفيدة بهذا الصدد؟
أدوار أنقرة
لا شك أن تركيا ليست مجرد دولة جارة لسورية، ولا يُقارن دورها في سورية المستقبلية بأي دولة أخرى، فهي الوحيدة من الدول التي تدخلت عسكرياً في سورية التي بقيت على دعمها للمعارضة السورية العسكرية والسياسية، ولم تصل لعلاقات طبيعية مع النظام رغم إبداء رغبتها بذلك (وقد تمنع النظام المخلوع)، وكان لها دور بارز وملحوظ في إدارة العلاقات السياسية والمباحثات الدبلوماسية مع الأطراف المختلفة وخصوصاً روسيا وإيران بعد انطلاق عملية «ردع العدوان».
.. وسيكون لها دور كبير في إعادة الإعمار فضلاً عن انتعاش العلاقات الاقتصادية والتجارية
وبالتالي، كان من المتوقع أن يرى الطرفان الأخيران؛ موسكو وطهران، أن أنقرة هي من وقفت خلف العملية الأخيرة وسقوط النظام تخطيطاً وإدارة وحماية، قبل أن تتغير لهجة كل منهما بعد سقوط النظام واستقرار الأمور في دمشق.
وعليه، فإن تركيا في مقدمة الأطراف الكاسبة من التغير الكبير في سورية، فقد ذهب النظام الذي لم يرد تطبيع العلاقات معها، وبدأ نظام جديد بالتشكّل سيكون أكثر حرصاً على علاقات حسن جوار وتعاون معها، بل لا يستبعد أن تتشكل الكثير من المؤسسات السورية على النموذج التركي من باب الاحتكاك والثقة والتعاون، كما يتوقع أن يكون لأنقرة دور كبير في إعادة الإعمار، وعودة عدد لا بأس به من السوريين المقيمين على أراضيها لسورية، فضلاً عن انتعاش العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وعودة سورية لتكون بوابة تركيا نحو العالم العربي كما كانت قبل الثورة ثم القطيعة الدبلوماسية؛ وعليه، يترتب على تركيا مسؤوليات عديدة في دعم وإسناد النظام الآخذ بالتشكّل لا سيما مع عِظم التحديات القائمة والمستقبلية.
في مقدمة ذلك بالتأكيد الدعم المالي والاقتصادي، كما النصائح ونقل الخبرات والدعم اللوجستي، ولا شك أن أنقرة مستعدة لتقديم ذلك، وقد عبّرت عن ذلك على ألسنة عدد من المسؤولين، في مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، كما يُنتظر أن تمارس تركيا دوراً بارزاً في عملية إعادة الإعمار نظراً للقرب الجغرافي، وكذلك لخبرة الشركات التركية في هذا المجال.
بيد أن الأهم هو مساهمة تركيا في دعم وحدة أراضي سورية والحفاظ على استقلالها وسيادتها، فهو التحدي الأكبر والأخطر، لما سبق تفصيله من اعتبارات وتطورات؛ وعليه، على تركيا أن يكون لها دور مهم في المنظومة العسكرية والأمنية السورية المستقبلية.
ويمكن لتركيا أن تكون أحد أهم مصادر السلاح السوري مستقبلاً، بل ربما تكون المصدر الأول، إذ وصلت الصناعات الدفاعية التركية إلى مصاف العالمية في السنوات الأخيرة.
كما يمكن لتركيا أن تكون داعماً رئيساً لسورية في مواجهة الاحتلال «الإسرائيلي» المتوسع للأراضي السورية والدفع باتجاه تراجع قوات الاحتلال من الأراضي التي احتلتها مؤخراً كخطوة أولى، إن كان بالتواصل مع الإدارة الأمريكية أو الدعم السياسي في المحافل الدولية.
منع التقسيم
كما أن لتركيا دوراً مهماً في منع سيناريوهات التقسيم و«الفدرلة» التي تسعى لها «قسد» بدعم خارجي، فقد وقفت تركيا سياسياً وميدانياً عائقاً أمام تأسيس دولة مستقلة أو دويلة تحكمها المنظمات الانفصالية المرتبطة بالعمال الكردستاني في الشمال السوري، وأطلقت من أجل ذلك عمليات عسكرية عديدة بدءاً من عام 2016م، كما وضعت أنقرة «فيتو» على مشاركة هذه الجهات في المسارات السياسية من جنيف لأستانا، وما زالت ترفض أن يكون لها دور بارز في صناعة مستقبل سورية طالما لم تتخل عن تبعيتها للكردستاني وعن إستراتيجيتها الإقليمية.
.. كما لها دور مهم في منع سيناريوهات التقسيم و«الفدرلة» التي تسعى لها «قسد» بدعم خارجي
بعد سقوط النظام السوري، صدرت عن تركيا عدة تصريحات بهذا الصدد تحذر من محاولة المنظمات الإرهابية استغلال التطورات الأخيرة، ملوّحة بإمكانية التدخل لتقويض أي مساعٍ من هذا القبيل، بيد أن وزير الخارجية خاقان فيدان أكد أن بلاده تنتظر خطوات من القيادة السورية الجديدة التي تشارك تركيا نفس الرفض للتقسيم؛ وعليه، يبدو أن أنقرة غير متعجلة في عملية عسكرية إضافية، وستترك المجال قليلاً للقيادة الجديدة، وكذلك ربما انتظاراً لسياسات ترمب في سورية والمنطقة.
خلال هذا الوقت، نصحت أنقرة تلك المنظمات بأن تتخلى عن علاقاتها العابرة للحدود وخططها المرتبطة بالتقسيم، وأن تخرج القيادات السورية المرتبطة بالكردستاني وغير السورية إلى خارج البلاد، ويبدو أن هذا مخرج قد يكون مرضياً لجميع الأطراف في المستقبل المنظور، وإلا فإن الأيادي التركية ستبقى على الزناد فيما يبدو لمنع أي استفادة من الأوضاع المستجدة باتجاه تقسيم سورية أو «فدرلتها» أو إبقاء بعض أراضيها تحت الاحتلال الأجنبي أو المحلي المدعوم أجنبياً.