تؤكد العديد من الدراسات الأكاديمية أن التعلم باستخدام اللغات الوطنية الأم أحد مؤشرات جودة التعليم، موضحة أن هناك علاقة مؤكدة بين التعليم باللغة القومية والتنمية الشاملة، حيث إن كل الأمم التي نجحت في تحقيق النهضة بدأتها من خلال ترجمة علوم وفنون الآخرين، ثم زادت عليها وأبدعت فيها، وهو ما مرت به الأمة الإسلامية في عصر نهضتها؛ حيث قامت بتعريب علوم اليونانيين وغيرهم، ثم زادت عليها لتقوم أوروبا بدورها فيما بعد بنقل هذه العلوم للغاتها لتحقق هي الأخرى النهضة الأوروبية.
لم تكن، إذن ووفق السياق السابق، دعوات البعض الملحة لتعريب العلوم مجرد محاولات للدفاع عن الهوية العربية أو حتى ضمن حملات الحفاظ على اللغة العربية –مع أهمية ذلك- وإنما أيضاً دعوة للارتقاء بالعملية التعليمية وتعزيز الاستقلالية العلمية وتحقيق التنمية الشاملة.
وعلى الرغم من أن دعوات تعريب العلوم تعود لعقود حيث يتوارثها الحالمون بها والمدافعون عنها جيلاً بعد جيل، كون أن رافضيها لم يستطيعوا وأدها واجتزازها، فإنها في الحقيقة وبعيداً عن مسألة الرفض تواجه تحديات جسيمة، منها ما هو لغوي ومنها ما هو ثقافي، غير أن أخطرها كان ولم يزل التحدي الاقتصادي.
تكاليف الترجمة
ربما يرى الكثيرون أن الترجمة أشمل من التعريب، فالترجمة تنطوي على جميع الممارسات والإجراءات من لغة إلى لغة، فيما أن التعريب يقتصر على توظيف اللغة العربية في فهم العلوم، غير أن هذا لا يعني في الحقيقة وبوضوح شديد إلا أن التعريب خطوة لاحقة للترجمة لا يمكن أن تتم بشكل جيد إلا في ظلها؛ الأمر الذي يستلزم ضرورة الاعتناء بمشاريع الترجمة التي تحتاج إلى جهد كبير وإتقان واسع.
وليس خافياً ما لمشاريع الترجمة من تكاليف مالية باهظة تحتاج إلى جهد مؤسساتي ضخم ورعاية حكومات، بالإضافة إلى الإرادة السياسية، وهو العامل الذي ربما لا يتوافر لدى بعض البلدان القادرة على تحمل هذه التكاليف المالية.
والتكاليف المالية المقصودة هنا لا تقتصر على إعداد المترجمين الماهرين القادرين على القيام بعملية التعريب وإتمامها وفق المواصفات العلمية والتقنية المنشودة لتحقيق الغرض فحسب، بل إنها تشتمل أيضاً على توفير المصادر والمراجع العلمية في مختلف التخصصات العلمية منها، كالطب والهندسة والزراعة والكيمياء والفيزياء وغيرها، أو العلوم الإنسانية كالتاريخ والسياسة والفلسفة والاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا وغيرها، وهو أمر ليس بالسهل من الناحية المالية في ظل التطور العلمي المتلاحق والثورة المعرفية.
ويترتب على ما سبق إشكالية أخرى تحتاج إلى تكاليف مالية؛ إذ إن إعداد الكتب أو المناهج العلمية باللغة العربية مكلف جدًا سواء من حيث التمويل اللازم للترجمة أو تطوير المحتوى من الصفر.
وهنا تبرز أيضاً أهمية أن يتم استحداث شعب متخصصة في مجامع اللغة العربية في العديد من البلدان العربية، على أن تكون هذه الشعب خاصة بالتكنولوجيا والتخصصات العلمية لبحث المصطلحات العلمية الجديدة وسبل تعريبها، على أن يكون بين هذه الشعب، بل وبين المجامع العربية نفسها، تنسيق عام وتبادل معرفي، وهو ما يحتاج لخطة وإنفاق مالي يرقى لمستوى الهدف.
وثمة أمر آخر يتعلق بالترجمة والتعريب يحتاج إلى جهد مالي ليس بالقليل؛ إذ تعني عملية تعريب العلوم إعادة النظر من جديد في طرق تدريس اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة، سواء على مستوى تعلم اللغة نفسها ومدرسيها أو إعادة تأهيل مدرسي مختلف التخصصات، والذين يعانون هم أنفسهم من تدني المستوى اللغوي؛ ما يحتاج معه إلى عقد دورات مكثفة ومتواصلة لتحقيق هذا التأهيل.
البنية التحتية
لم تمثل التصريحات التي كانت قد صدرت عن شركة «جوجل» حول الفجوة الواسعة بين المحتوى العربي على الإنترنت وعدد المتحدثين باللغة العربية من مستخدمي الشبكة العالمية أي صدمة للمعنيين؛ إذ ذلك نتيجة طبيعية لضآلة المحتوى العربي على الإنترنت الذي لا يتجاوز 3% مقارنة بعدد المستخدمين الذين يستفيدون من اللغة العربية، والذين يصل عددهم إلى أكثر من 300 مليون مستخدم.
ورغم أن اللغة العربية هي الثامنة عالمياً، فإنها تأتي متأخرة فيما يخص كمية المحتوى عن لغات لا يتجاوز عدد المتحدثين بها دولة واحدة، وهي الإشكالية التي يعود بعض أسبابها إلى قضية تعريب العلوم، فأغلب الدارسين والباحثين في عالمنا العربي يعتمدون في التعامل مع المنصات الرقمية بلغات أخرى بخلاف اللغة العربية، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً في حال تعريب العلوم؛ إذ ستحتاج عندئذ الجامعات والمؤسسات العلمية العربية إلى منصات رقمية تدعم اللغة العربية بفعالية، سواء من حيث البرمجيات التعليمية أو محركات البحث الأكاديمية وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية المتخصصة، وهو ما سيمثل تكلفة إضافية يجب أخذها بعين الاعتبار.
الدعم الغربي
يدرك القائمون على العملية التعليمية، وكذلك البحث العلمي في عدد من البلدان العربية، أن الدعم الغربي الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية أو دول الاتحاد الأوربي الذي يصل إلى عشرات الملايين من الدولارات تقف خلفه حزمة من الأهداف غير المعلنة، يبرز منها فضلاً عن طبيعة المناهج التعليمية استمرار تعليم الطلاب بعض اللغات الأجنبية، وعدم تفعيل مسألة تعريب العلوم في جامعات هذه الدول.
في هذا السياق، فإن الإصرار على عملية تعريب العلوم يعني في حده الأدنى تضارب مصالح بعض الجهات الأجنبية مع هذا المشروع؛ ومن ثم إحجام الدول الداعمة عن تقديم الدعم اللازم لتحقيقه، بل والدفع بقطع التمويل والدعم المالي الذي كانت تقدمه هذه الجهات للتعليم والبحث العلمي.
تراجع التأليف
يستحضر بعض المتخوفين من تداعيات تعريب العلوم تجربة سورية في تعريب الطب التي بدأت عام 1919م، وكانت إيجابية حتى وقت قريب، حيث انتعشت حركة الترجمات والمؤلفات الطبية العربية، إلا أنه حدثت فجوة ناتجة عن تراجع جهود ترجمة العلوم؛ ما أثر سلباً على تطور المراجع العلمية العربية، فأصبحت عاجزة عن استيعاب هذا الازدهار السريع والهائل.
ومصدر التخوف أن يكون لأي تراخ في حركة التعريب أثره السلبي على سوق الكتاب العلمي باللغة العربية، وهو ما سيفاقم من الأزمة الاقتصادية أمام حركة التأليف العربي العلمي؛ الأمر الذي سيدفع دور النشر فضلاً عن المؤلفين من الباحثين والعلماء المتخصصين للإحجام عن تقديم محتوى كتاباتهم باللغة العربية.
سوق العمل
لا يمكن أن يشكك أحد في أن التعريب سيساهم بقدر كبير في تعزيز الاستقلالية المعرفية ومنح الباحثين العرب فرصة للإنتاج العلمي والمعرفي الخاص، ومن ثم اتساع دائرة فهم واستيعاب النظريات العلمية الغربية وتعزيز القدرة على التفاعل مع العلماء الغربيين.
لكن في المقابل، سيترتب على ذلك سلبيات، منها ما هو معرفي كحرمان الباحثين العرب من نشر إنتاجهم في المجلات العلمية الغربية، وضعف وصول أبحاثهم إلى المستوى الدولي، ومنها ما هو اقتصادي حيث ستقل فرص الباحثين العرب في العمل في المؤسسات الدولية؛ إذ لا تزال بعض المجالات العلمية تعتمد الإنجليزية بشكل كبير، وهو ما سيجعل الباحثين العرب يجدون أنفسهم أقل قدرة على المنافسة، وبطبيعة الحال، فإن تراجع فرص العمل بالنسبة للباحثين العرب في الغرب سيحرم البلدان العربية من تحويلاتهم المالية التي تقدر بمليارات الدولارات.