لم يتوقف الاحتلال الصهيوني يوماً عن السعي للسيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً، هذه الأطماع متجذرة في العقيدة الصهيونية، التي تستند إلى مفاهيم توراتية وتاريخية تسعى لتحقيق «أرض الميعاد»، بل إن هذه الطموحات تمتد أبعد من فلسطين التاريخية لتشمل مناطق ما بين نهري دجلة والفرات إلى نهر النيل؛ ما يعكس أحلاماً توسعية بعيدة المدى، وصرح بذلك قادة الاستيطان، وآخرهم وزير المالية الأكثر تطرفاً بتسلئيل سموتريتش الذي دعا لعودة الاستيطان لغزة، وسبق أن صرح من باريس قبل أشهر أنه لا يوجد شعب فلسطيني.
«طوفان الأقصى» وتأثيرها
بعد عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023م، وجاءت هذه العملية بمثابة صفعة غير مسبوقة للاحتلال، حيث تمكنت المقاومة من فرض سيطرتها على مناطق واسعة في محيط غزة، المعروف بـ«غلاف غزة»، الذي يتجاوز مساحته ضعفي مساحة القطاع، والتي أظهرت قوة المقاومة وأدت إلى مقتل وأسر عدد كبير من الجنود الصهاينة، بينهم المئات من قادة وجنود «فرقة غزة»، المسؤولة عن العمليات العسكرية والأمنية في المنطقة الجنوبية، برزت وتصاعدت التصريحات الصهيونية التي تدعو إلى تعزيز السيطرة الأمنية وإعادة النظر في السياسات الاستيطانية.
تاريخ الاستيطان في غزة
تاريخياً، بدأت محاولات الاستيطان في غزة قبل عام 1948م، حيث أقيمت مستوطنة «كفار داروم» وسط القطاع، التي تُعد من أقدم المستوطنات الصهيونية، وبعدها توسع الاستيطان بشكل كبير بعد احتلال غزة عام 1967م، حيث سيطر الاحتلال على ثلث مساحة القطاع، بما في ذلك المناطق الساحلية الأكثر خصوبة، وشكلت المستوطنات عبئاً على السكان الفلسطينيين، حيث استنزفت الموارد المائية والزراعية، إلى أن أجبرت المقاومة الاحتلال على الانسحاب الكامل من غزة عام 2005م، وتدمير المستوطنات وترحيل المستوطنين.
ورغم الدعوات المتكررة لإعادة الاستيطان في غزة، يواجه الكيان المحتل عقبات كبيرة تمنعه من تحقيق ذلك، أهم هذه العقبات قوة المقاومة الفلسطينية، التي أثبتت قدرتها على توجيه ضربات قاسية للاحتلال، كما حدث في عملية «طوفان الأقصى»، بالإضافة إلى ذلك، الكثافة السكانية العالية في غزة تجعل أي مشروع استيطاني مكلفاً وصعب التنفيذ، كما أن فشل الاحتلال في القضاء على المقاومة خلال حروبه المتكررة على القطاع يؤكد أن العودة إلى الاستيطان ليست خياراً سهلاً.
مع إدراك الاحتلال لصعوبة الاستيطان في غزة، يركز جهوده على الضفة الغربية، التي يعتبرها الهدف الإستراتيجي لمشروعه الاستيطاني، يدعو سموتريتش وآخرون إلى توسيع المستوطنات في المناطق المصنفة «ج»، وتحويل الضفة إلى تجمعات استيطانية ضخمة تفصل بين المناطق الفلسطينية.
ويرى الاحتلال أن الاستثمار في الضفة أكثر جدوى، في حين يتم التعامل مع غزة كمنطقة عازلة تُخضع بالحصار والضربات العسكرية، وأن العودة لما قبل عام 2005م سيكون مكلفاً للاحتلال على الصعيد البشري والمادي، واستنزافاً لا يتحمله الاحتلال.
امتيازات خاصة لسرطان الاستيطان
قبل الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة، كان هناك حوالي 8 آلاف مستوطن «إسرائيلي» يعيشون في 21 مستوطنة موزعة على أراضٍ فلسطينية خصبة، ورغم قلة العدد، فإن هؤلاء المستوطنين استفادوا من امتيازات واسعة، عززت الهيمنة الصهيونية على القطاع وموارده من خلال توفير امتيازات خاصة لهم، كما هي الحال في الضفة الغربية، منها:
– الأمن والحماية: وفّر جيش الاحتلال حماية كاملة للمستوطنات، مع مراقبة وحصار المناطق الفلسطينية المجاورة؛ ما ضمن سلامة المستوطنين على حساب حياة الفلسطينيين.
– البنية التحتية المتطورة: تمتع المستوطنون بشبكة طرق خاصة، ومرافق حديثة تشمل خدمات المياه والكهرباء، بينما عانى الفلسطينيون من نقص حاد في الخدمات الأساسية بسبب الحصار والاحتلال.
– استغلال الموارد الزراعية: سيطر المستوطنون على الأراضي الزراعية الخصبة في غزة؛ ما أضرّ بالاقتصاد الفلسطيني ومنع السكان المحليين من الاستفادة من مواردهم.
– الدعم الحكومي: قدمت حكومة الاحتلال دعماً مالياً سخياً لتطوير المستوطنات، بينما كانت تفرض قيوداً صارمة على النشاط الاقتصادي الفلسطيني.
معوقات إعادة الاستيطان في غزة
رغم ذلك، تستمر الدعوات من بعض قيادات اليمين الصهيوني لإعادة الاستيطان، لكنها تصطدم بمعوقات سياسية وعسكرية تجعل التركيز «الإسرائيلي» يتحول نحو الضفة الغربية، ومن هذه التحديات والصعوبات التي تواجه الدعوات للاستيطان في قطاع غزة:
– قوة المقاومة الفلسطينية: أثبتت المقاومة، من خلال عملية «طوفان الأقصى» وغيرها، أنها قادرة على ضرب الاحتلال في عمقه، فأي محاولة لإعادة الاستيطان ستواجه برد عنيف من المقاومة؛ ما يجعلها مشروعاً مكلفاً للغاية.
– الكثافة السكانية العالية: يعيش في غزة أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة صغيرة؛ ما يجعل من الصعب تنفيذ أي مشروع استيطاني دون الدخول في مواجهة شاملة مع المقاومة.
– التجربة السابقة: انسحب الكيان الصهيوني من غزة عام 2005م بعدما أصبحت المستوطنات عبئاً أمنياً واقتصادياً، عودة الاستيطان تعني تكرار تلك التجربة، التي أثبتت فشلها في تحقيق أي أهداف إستراتيجية.
– الحصار كبديل للاحتلال: يعتمد الاحتلال اليوم على الحصار كوسيلة للسيطرة على غزة، حيث يمنع الإعمار، ويتحكم في الاقتصاد والموارد، هذا الحصار يحقق للكيان جزءاً من أهدافه دون الحاجة لتحمل كلفة الاحتلال المباشر.
– تصعيد الصراع: أي محاولة لإعادة الاستيطان ستؤدي إلى تصعيد عسكري كبير مع المقاومة الفلسطينية، وقد تمتد تداعياتها إلى دول الجوار مثل مصر ولبنان.
– تزايد الانتقادات الدولية: سيواجه الاحتلال ضغوطاً دولية أكبر، خاصة مع تصاعد الانتهاكات بحق السكان الفلسطينيين، وإعادة الاستيطان ستعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، الذي يعتبر قطاع غزة أرضاً محتلة.
وعلى الرغم من انسحاب الاحتلال من مستوطنات غزة عام 2005م، فإن الأطماع الصهيونية في القطاع لم تتوقف، لكنها تبقى في حسابات الاحتلال المستقبلية، حيث تمثل غزة والضفة الغربية محوري الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي»، لذلك يواصل الكيان الصهيوني تركيزه على الضفة الغربية، حيث يسعى لتوسيع مستوطناتها وفرض سيطرته الكاملة، ويبقى التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين هو توحيد الجهود لمواجهة هذه المخططات، والحفاظ على صمود غزة كنموذج للمقاومة، في ظل استمرار الأطماع «الإسرائيلية» التي لا تنتهي.
غزة والضفة في مواجهة الاستيطان
هذا لا يعني أن غزة بعيدة عن حسابات الاحتلال، فالدعوات لإعادة الاستيطان في القطاع تأتي في سياق مشروع شامل يستهدف السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية، وتصريحات قادة الاحتلال، مثل سموتريتش، وبن غفير، تعكس رؤية أيديولوجية ترى في غزة جزءاً من «أرض الميعاد»، التي يجب أن تكون تحت سيطرة الاحتلال المباشرة.
الاستيطان الصهيوني يمثل السرطان الذي ينهش الأرض والإنسان الفلسطيني، ففي غزة، خلفت سنوات الاستيطان تدميراً للبنية التحتية، ومصادرة الموارد، وترك أراضٍ ملوثة غير قابلة للزراعة، أما في الضفة، فإن سياسات الاستيطان تهدف إلى تهجير السكان قسراً؛ ما يؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي وزيادة البطالة، ويفاقم هذا الوضع الأزمات الإنسانية، ويضع مزيداً من الضغوط على الفلسطينيين الذين يواجهون قيوداً متزايدة على الحركة والبناء.
الإحصاءات والمؤشرات على حجم الاستيطان الذي تمدد في الضفة الغربية مرعبة، خاصة بعد توقيع «اتفاق أوسلو» بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية أكثر من 517407 مستوطنين حتى نهاية عام 2023م، يسيطرون على 60% من الضفة الغربية، ويتحكم 23 مستوطناً في سلة فلسطين الزراعية في منطقة طوباس والأغوار وأريحا.
بينما يعتبر الاحتلال الضفة الغربية مركز مشروعه الاستيطاني، تظل غزة شوكة في حلق الاحتلال، فالمقاومة في غزة ليست فقط حاجزاً أمام الأطماع الصهيونية، بل هي أيضاً مصدر إلهام للفلسطينيين في الضفة الغربية وباقي المناطق المحتلة، واستمرارية الصمود والمقاومة في غزة والضفة هو العامل الأساسي لإفشال المشروع الصهيوني، الذي يعتمد على تفتيت الأرض الفلسطينية وتكريس الاحتلال، مؤكدةً أن المقاومة الفلسطينية قادرة على إحباط المشاريع الاستيطانية مستقبلاً.