ازدادت قوة المسلمين عقب الانتصار في غزوة «بدر»، ما جعل القبائل المحيطة بالمدينة تتوجس خيفة على نفوذها ومصالحها، فاتسع نطاق التهديدات المحيطة بالمسلمين، الأمر الذي دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تطوير الاستخبارات العسكرية على نطاق أوسع داخل المدينة للتأكد من التزام اليهود بعهدهم معه، والوقوف على ما يبثه المنافقون من دعايات مسمومة تهدف إلى تثبيط عزيمة المسلمين ونشر الخوف بينهم، إضافة إلى تهديدات قريش والقبائل المحيطة بالمدينة، وكذلك أخطار الروم خارج الجزيرة التي تنامت عقب فتح مكة.
لذا اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم التدابير اللازمة لمعرفة ما تضمره تلك القوى تجاه المسلمين وتوسيع نطاق الاستخبارات حتى يستطيع مواجهة تلك التهديدات.
وتقسم الاستخبارات العسكرية في عصرنا إلى مستويين؛ استخبارات إستراتيجية، واستخبارات تكتيكية، وتهدف الأولى إلى جمع وتحليل المعلومات التي تساعد في اتخاذ التدابير اللازمة بشكل استباقي حول القضايا ذات الأولية والحد من الأخطار التي تتعرض لها الدولة، بينما الثانية تركز على المعلومات اللازمة التي يحتاجها القائد في الميدان للتخطيط للعمليات القتالية، وقد قامت استخبارات النبي صلى الله عليه وسلم بهذين النوعين من الاستخبارات.
استخبارات النبي الإستراتيجية
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم حماية الدولة الإسلامية من الأخطار المحيطة بها هدفًا إستراتيجيًا، فاختار لذلك جواسيسه ممن يتمتعون بالكفاءة والذكاء لينقلوا إليه أخبار اليهود والمنافقين وقريش والقبائل والروم، وكان لمعلوماتهم الاستخباراتية أثر كبير في اتخاذ القرار المناسب، ومن ذلك: أن استخبارات النبي صلى الله عليه وسلم رصدت بعد غزوة «بدر» أن قبيلة سليم من غطفان تتجهز للإغارة على المدينة، فما كان منه إلا أن تجهز وخرج إليهم، فلما علموا بمقدمه هربوا وغنم المسلمون 500 بعير، وعادوا إلى المدينة(1).
ولما تحالفت قريش وغطفان على مهاجمة المدينة عام 5هـ، سارع جبيلة بن عامر البلوي بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بتحالف الأحزاب ضده، وكانت له أيضًا عيون داخل قبيلة غطفان نفسها، فاستقر بعد مشاورته لأصحابه على حفر الخندق حول المدينة.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عيون على اليهود يخبرونه بدسائسهم ومكرهم، فنقل خارجة بن حسيل الأشجعي إليه سعي يهود خيبر للتحالف مع غطفان ضده، وكان له عيون ينقلون إليه أخبار الروم، فمنهم فروة الجذامي أحد حكام بلاد الشام الذي أسلم، وحاجب حاكم بصري الغساني، والتجار والوفود القادمة إلى المدينة من تلك المناطق التي نقلت إليه نوايا الروم العدائية تجاه المسلمين، وهو ما أسفر عنه الاستعداد لمواجهتهم في «مؤتة» عام 8هـ، و«تبوك» عام 9هـ(2).
استخبارات النبي التكتيكية
تهدف الاستخبارات التكتيكية إلى إمداد القيادة بالمعلومات الاستخباراتية عن العدو لتساعده في اتخاذ القرار المناسب، وقد جاء تكليف النبي صلى الله عليه وسلم لرجال الاستخبارات لجمع معلومات دقيقة عن العدو أثناء المعركة أو عند الخروج إليها، ومن ذلك مثلاً أنه كلف حذيفة بن اليمان في غزوة «الأحزاب» ليذهب ويدخل في القوم ويأتيه بأخبارهم، فامتثل حذيفة أمره، وأتاه بكل ما شاهده وسمعه من خبرهم، وما استقر عليه رأيهم على الرحيل إلى مكة(3).
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أداء العمرة عام 6هـ أتاه الخبر من مكة أن قريشًا تريد صده عن المسجد الحرام، وأنها أرسلت إليه جيشًا بقيادة عكرمة بن أبي جهل، وأعلمه الطريق الذي سلكه؛ ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير طريقه، فسار بهم من طريق آخر مهجور حتى يتلافى ملاقاتهم والاصطدام بهم، وهو لا يريد قتالًا، ولما أراد فتح خيبر عام 7هـ أرسل عباداً بن بشر لاستطلاع أخبارها، فأسر عباد جاسوسًا لليهود، واستطاع أن يعرف منه أحوالهم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح عام 8هـ غالباً بن عبدالله الكناني الليثي عيناً له ليسهل له الطريق(4).
وحين اجتمعت هوازن وثقيف في «حنين» عام 8هـ لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وجه إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي بأن يدخل في الناس فيقيم فيهم ويأتيه بخبرهم، فدخل معسكرهم ووقف على ما عزموا عليه من حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالأمر(5).
يفتخر رجال الاستخبارات اليوم بتنفيذ عمليات خاصة مؤثرة في جيش العدو تُحْدِث فيه تأثيرًا كبيرًا بأقل خسائر تذكر بين من قاموا بالمهمة، فإن جهاز الاستخبارات النبوي قام بمثل تلك العمليات النوعية على نحو ما قام به عمرو بن أمية الضمري الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عينًا له على قريش ليعرف خبر أسرى المسلمين الذين غدرت بهم هُذيل، وباعت اثنين منهم إلى قريش لتقتلهما، وهما زيد بن الدثنة، وحبيب بن عدي، وقد تمكن عمرو بن أمية من الوصول إلى جثة خبيب، وأنزله من خشبته التي صلب عليها، وعندما أحست به قريش استطاع أن يقتل بعضًا منهم، ويأسر جاسوسًا لهم ثم عاد إلى المدينة(6).
ولما أسلم نعيم بن مسعود من قبيلة غطفان أثناء حصار الأحزاب للمدينة، قال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة»، فسعى بين بني قريظة وقريش حتى أفسد حلفهم، وانفرط عقدهم(7).
تعامُل النبي مع المعلومات الاستخباراتية
من المتعارف عليه أن المعلومات الاستخباراتية قد تحتوي على معلومات غير حقيقية، ولا ينبغي أن تتخذ القيادة قرارات مصيرية على معلومات ظنية؛ لذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التثبت من الأخبار التي تصله، ومن أمثلة ذلك أنه لما بلغه نقض بني قريظة عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفهم مع الأحزاب، أرسل إليهم سعداً بن معاذ، وسعداً بن عبادة للتأكد من صحة ذلك الخبر، فلما عادا أخبراه بأنهم نقضوا العهد كما بلغه(8).
وعند التأكد من صحة الأخبار، فإنه يخضعها للتحليل واتخاذ القرار المناسب، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته خداع العدو وتضليله، فقلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها، فيسأل عن جهة وطريق معين ويقصد أخرى ليكون أنكى للعدو حتى يمنع الجواسيس من نقل أخبارهم، وإنما يريد أن يصل إليه دون استعدادهم.
وإمعاناً في السرية والكتمان، نجح النبي صلى الله عليه وسلم في كتمان أخباره عن العدو ومفاجأته، ويتجلى ذلك في غزوة «الأحزاب» عندما شرع في حفر الخندق الذي استغرق ما يقرب من 20 يومًا وقريش لا تعلم بما يفعله وتفاجؤوا به، فلما وقفوا عليه قالوا: والله إن هذا لمكيدة ما كانت العرب تكيدها(9).
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة دعا بقوله: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها»، ومنع الخروج من المدينة مخافة تسرب الخبر إلى قريش، وقد أدى التخطيط الفذ الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إرباك قريش، فشعروا أنهم غير قادرين على الوقوف أمام هذا الجيش الكبير أو مقاومته بأي شكل، فدخلها دون مقاومة تذكر.
هكذا نجحت استخبارات النبي صلى الله عليه وسلم في إمداده بالمعلومات اللازمة عن القوى المحيطة به ما يسَّر له رصد تحركاتهم ومعرفة حجم قواتهم، والاستعداد لمواجهتهم وخداعهم وتضليلهم، واستخدام أساليب جديدة تفاجئ وتشتت قوتهم، وتضعف تفوقهم العسكري في ميدان القتال.
_________________________
(1) الواقدي: المغازي، ج1، ص182.
(2) الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص527.
(3) ابن هشام: السيرة النبوية، ج2، ص231.
(4) الواقدي: المغازي (2/ 640).
(5) الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص72.
(6) الواقدي: المغازي (1/ 391).
(7) ابن هشام: السيرة النبوية، ج3، ص89.
(8) ابن كثير: السيرة النبوية، ج3، ص199.
(9) ابن هشام: السيرة النبوية، ج3، ص84.