ذكر أهل الأخبار عدة روايات حول التواجد اليهودي في جزيرة العرب لا يخلو أغلبها من مقال، لكن بعضها أقرب إلى الواقع من بعض، حيث يوافق كثير من المؤرخين على أن الهجرات اليهودية إلى جزيرة العرب كانت ثلاثاً:
الأولى: هجرة قبائل شمعون، في أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
الثانية: الهجرة أمام الزحف البابلي على القدس، في أوائل القرن السادس قبل الميلاد.
الثالثة: الهجرة أمام الغزو الروماني، في القرن الأول الميلادي عام 70م، حيث أمر القائد الروماني هيلس بإغراق اليهود في بحيرة لوط، بعدما دمر المدينة المقدسة، وأحرق المعبد اليهودي الذي بناه هيردوس، فهاجر على إثر ذلك مجموعات من اليهود إلى شبه جزيرة العرب وأطراف يثرب وأعالي الحجاز(1).
اليهود هاجروا إلى شبه الجزيرة العربية في وقت مبكر نظراً لتعرضهم لاضطهادات عديدة
يقول ياقوت الحموي: «ثم إن الروم ظهروا على الشام فقتلوا من بني إسرائيل خلقاً كثيراً، فخرج بنو قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون الحجاز الذي فيه بنو إسرائيل ليسكنوا معهم»(2)، وعلى كل حال، فإن اليهود هاجروا إلى شبه الجزيرة العربية في وقت مبكر نظراً لتعرضهم لاضطهادات عديدة على مر الزمان.
مواضع انتشار اليهود في شبة جزيرة العرب
وانتشر اليهود أفراداً وجماعاتٍ في مواضع المياه والعيون أملاً في العيش والاستقرار، حيث تمركز اليهود في منطقة يثرب -حيث لا أوس فيها ولا خزرج- وكان من أهم قبائلهم فيها بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو زيد، وبنو قينقاع، وبنو ثعلبة، وبنو عكوة، وبنو زعور.
كما تعتبر خيبر منطقة حيوية للتمركز اليهودي، حيث اشتهر يهودُها من بين سائر يهود الجزيرة العربية بجَرأتهم وتفوقهم الاقتصادي، لاشتغالهم بزراعة النخيل والحبوب، كما أقاموا بها عدة حصون كحصن ناعم، وحصن الغموص لأبي الحقيق، وحسن السلالم، وحصن الكتيبة، وحصن الصلب بن معاذ الذي كان أكثر الحصون طعاماً وودكاً.
كما تواجد اليهود في تيماء وفدك ووادي القرى، واهتموا بالتمركز في مواقع الري وملتقى القوافل والطرق التجارية، والمناطق الساحلية التي يوجد بها الموانئ كمنطقة عدن باليمن.
.. وانتشروا في مواضع المياه والعيون أملاً في العيش والاستقرار في يثرب وخيبر
أما في مكة، فلم يكن لهم جالية كبيرة أو أثر واضح فيها، حيث لم يذكر القرآن احتكاكاً بينهم وبين أهل مكة من المسلمين أو المشركين(3).
الحياة الاقتصادية لليهود في الجزيرة
تميز اليهود هنالك بالتقدم الاقتصادي المزدهر، حيث استطاعوا أن يسيطروا على الثروات الأساسية في يثرب وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها التي تدرّ الأرباح العالية، فقد اشتهر اليهود في يثرب من قديم الزمان بصناعة الأسلحة؛ من سيوف ونبال ودروع وسهام ونصال، وبالتالي كانوا يتصدرون تجارة السلاح في الحجاز قبل الإسلام، كما برعوا في صناعة الحلي فكانوا يصنعون بعض العقود من الجواهر الثمينة، وكانت لبني قينقاع سوق في وسط يثرب عند جسر بطحان، يصنعون فيها الحلي ويبيعون فيها ما يصنعون.
كما برعوا في مهنة الصيرفة والإقراض بالفائدة الفاحشة، فكان أغلب أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم المالية والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم(5).
وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليهود في زماننا المعاصر على الرغم من قلة عددهم عالمياً، فإنهم يسيطرون على أسواق المال والأعمال ويتحكمون في الاقتصاد العالمي بشتى مجالاته، فهم يديرون بشكل شبه كلي «اقتصاد المعرفة في العالم»؛ إذ يسيطر اليهود على أغلب أركان الاستثمار في عالم تكنولوجيا المعلومات من تقنيات وبنى تحتية، ويتحكمون بنسبة شبه كاملة في إدارة الإنترنت ومحتوياته على غرار «جوجل»، كما يتحكمون في إدارة أغلب منصات التواصل العالمية كـ«يوتيوب»، و«فيسبوك»، و«إنستغرام»، و«واتساب».. وغيرها.
.. وتميزوا بالتقدم الاقتصادي واستطاعوا السيطرة على الثروات الأساسية في يثرب
كل هذا النفوذ الاقتصادي الذي يتمتع به اليهود حول العالم يجعل قوتهم تتمدد في العلن والخفاء إلى مفاصل الاقتصاد العالمي، فهيمنة اليهود والصهاينة باتت في عالم المال والمضاربات، وسوق الطاقة، والمجوهرات، وماركات الألبسة والإلكترونيات، مروراً بالموضات والعطور والحلويات، ووصولاً إلى التكنولوجيات الحديثة، مع التركيز على الصناعات العسكرية والأمنية.
جدير بالذكر أن كبرى الشركات العاملة في هذه القطاعات يديرها يهود، ولها فروع في أغلب دول العالم، وليس بغريب أن تكون السيطرة غير المباشرة على قرارات الأسواق العالمية بيد اليهود، فيكفي النظر إلى منصب رئيس البنك المركزي الأمريكي (الاتحادي الفيدرالي) المتحكم في تحركات السوق المالية في العالم الذي يرأسه بالخلافة صهاينة(6).
الحياة الاجتماعية لليهود في جزيرة العرب
نزحت الأوس والخزرج من مأرب إلى يثرب عقب حادثة «سيل العرم»؛ فوجدوا اليهود قد سكنوا يثرب قبلهم بزمن، فعاش العرب تحت وطأة النفوذ اليهودي في يثرب حياة الضيق والشدة وعدم الأمان والاستقرار، فلما طلبوا منهم أن يعقدوا بينهم حلفاً وجواراً آمناً، تنكر اليهود لذلك، حتى اضطر الأوس والخزرج إلى المكوث في بيوتهم خوفاً من غدر اليهود أن يجلوهم عنها، وظل العرب مع اليهود على هذه الحال من الصراع وانعدام الأمن حتى قويت شوكتهم وأصبح للعرب كيان سياسي في يثرب يؤهلهم للتنافس على زعامتها ومواردها الاقتصادية.
العلاقات بين القبائل اليهودية اتسمت في بعض الفترات بالتفكك وسادت بينهم العداوات
وعلى صعيد آخر، فقد اتسمت العلاقات بين القبائل اليهودية في بعض الفترات بالتفكك والضعف وسادت بينهم العداوات والخصومات التي ربما كانت نتيجة لما وقع بين كبرائهم من تنافس على الزعامة أو بسبب تشتتهم القبلي، وعلى إثر ذلك تحالف بنو قينقاع مع الخزرج، وتحالف بنو قريظة وبنو النضير مع الأوس، وقد كان من بنود هذه التحالفات أن يقاتل كل فريق مع حليفه ضد الفريق الآخر، وقد شهد التاريخ -إبان حرب «بعاث»- على إثخان بني النضير وبني قريظة في بني قينقاع، فمزقوهم وأسروهم ونهبوهم على الرغم من امتناع ذلك في شريعتهم، لكنهم خالفوها كعادتهم ونقضوا عهد الله، ونبذوا كلامه وراء ظهورهم تحقيقاً لمصالحهم الشخصية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) (البقرة).
وهنا لفتة مهمة: فاليهود لا يوفون بعهد قط لا مع الله ولا مع أنبيائه ورسله، ولا مع أنفسهم ولا مع غيرهم، فالغدر والخيانة ونقض العهود يجري مجرى الدم من اليهود، قال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100)، وقال تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ) (الأنفال: 56)، فيا ليت قومنا يعلمون أن اليهود لم ولن يلتزموا أبداً بمعاهدة ولا ميثاق، وأنهم سينقضونها حتماً يوماً ما، فمن قتل الرسل والأنبياء ونقض العهد مع رب السماء، سينقض عهده مع الملوك والرؤساء والزعماء.
__________________
(1) يثرب قبل الإسلام، محمد السيد الوكيل.
(2) معجم البلدان، ياقوت الحموي.
(3) أوضاع الجماعات اليهودية في شبه الجزيرة، رشيد قحافة (بتصرف).
(4) تاريخ العرب القديم، توفيق برو (بتصرف).
(5) يثرب قبل الإسلام (باختصار).
(6) مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث.