حرصت الحضارة الإسلامية على تربية أبنائها، وتوجيههم إلى الحذر الشديد من فتنة المال، والطريقة المثلى في التعامل معه، ويتبين ذلك فيما يأتي:
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الحذر من فتنة المال:
1- الشعور بالضيق والكرب عند كثرة المال:
أورد الأصبهاني عن طلحة بن يحيى، قال: حدثتني جدتي سعدى بنت عوف، قالت: دخل عليَّ طلحة ذات يوم وهو خائر النفس، ورأيته مغموماً، فقلت: ما لي أراك كالح الوجه؟ ما شأنك؟ أرابك مني شيء فأعينك؟ قال: لا، ولنعم خليلة المرء المسلم أنت، قلت: فما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قلت: وما عليك، اقْسِمْهُ، قالت: فقسمه حتى ما بقي منه درهم واحد(1).
2- تشبيه الأموال بالحيّات السامة:
إن حذر الدعاة في الحضارة الإسلامية من فتنة المال جعلهم يطلقون عليه تشبيهات صعبة، كي يخافوا من كنزه، وعدم أداء حق الله تعالى فيه، ومن هذه التشبيهات ما أورده الغزالي في قوله: «اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ مِثْل حَيَّةٍ، فِيهَا سُمٌّ وَتِرْيَاقٌ، ففوائده ترياقه وغوائله سمومه، فَمَنْ عَرَفَ فَوَائِدهَ وَغَوَائِله أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ شَرِّه، وَيَسْتَدِرَّ مِنْ خَيْرِه»(2).
الدعاة أدركوا وظيفة المال فلم يكنزوه دون أن يتصدقوا منه ولم يرفضوه حتى لا يعدموا احتياجاتهم
3- انشراح الصدر عند التصدق بالمال:
حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الانتفاع بالمال أحسن ما يكون الانتفاع، حيث إنهم علموا أن المال إذا تصدق به الإنسان؛ فإنه يبقى في ميزانه يوم القيامة، حتى يبلغ به درجة الفلاح؛ لذا كانت تنشرح صدورهم حين يتصدقون، بسبب الوقاية من فتنة المال في الدنيا والانتفاع به في الآخرة.
يقول ابن القيم: والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها(3)، وكان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي، فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة، فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت(4).
4- التحذير من الإسراف في الإنفاق على النفس:
أورد ابن قتيبة عن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما دون أربعة آلاف درهم نفقة، وما فوقها كنز، وقال الحسن: إذا أردتم أن تعلموا من أين أصاب المال فانظروا فيم ينفقه، فإنّ الخبيث ينفق سرفاً(5)؛ وهذه دعوة للفت أنظار العقلاء ألا يسرفوا في الإنفاق على النفس، حيث قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، من هنا كان على كل مسلم أن يوازن بين الإنفاق على نفسه والإنفاق على غيره.
ضرورة الحرص على الانتفاع بالمال والحذر من فتنته بأن يشغل صاحبه عن طاعة الله تعالى
5- الانتباه إلى وظيفة المال:
أدرك الدعاة في الحضارة الإسلامية وظيفة المال، فلم يكنزوه دون أن يتصدقوا منه، ولم يرفضوه حتى لا تفسد حياتهم أو يعدموا احتياجاتهم، بل إنهم توازنوا في ذلك، فوظفوا المال خير توظيف، وأقاموا به خير الدنيا والآخرة، حتى قال عبدالملك بن مروان: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْداً وَدَفَعَ ذَمًاً(6)، وقال الغزالي: تِرْيَاقُ الْمَالِ أَخْذُ الْقُوتِ مِنْهُ، وَصَرْفُ الْبَاقِي إلَى الْخَيْرَاتِ، وَمَا عَدَاهُ سَمُومٌ وَآفَاتٌ(7).
دوافع الحرص في الحضارة الإسلامية على الحذر من فتنة المال:
1- الإيمان بأن المال قد يكون فتنة:
إن الله تعالى أكد أن المال زينة الحياة الدنيا، فقال عز وجل: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: 46)، وفي الوقت نفسه أكد أيضاً أن المال قد يكون فتنة، حيث قال عز وجل: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: 15)، والجامع بين هذه الآيات أن المال يكون زينة الحياة الدنيا إذا جمعه الإنسان من حلال وانتفع به في إقامة الحياة الطيبة، لكنه إذا انحرف بسببه عن الصراط المستقيم فإنه يكون فتنة.
وقد دفع هذا الإيمان أبناء الحضارة الإسلامية إلى الحرص على الانتفاع بالمال والحذر من فتنته، ومن فتنة المال أن يشغل صاحبه عن طاعة الله تعالى، فمن اختار ماله وولده على ما عند الله؛ فقد خسر خسراناً عظيماً(8).
2- الخوف من إفساد المال للقلب:
أورد الإمام أحمد عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً لَوْ شَاءَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ أَخَذَهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَا تَأْتُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ فَتَأْخُذُونَهُ حَلَالاً؟ فَيَقُولُونَ: لَا، إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ فَسَاداً لِقُلُوبِنَا(9).
3- جمع المال الزائد تخزين للغير:
قال سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: اعْلَم أَنَّك لا تكتسب من المَال شيئاً فَوق قُوتِكَ إِلَّا كنت فِيهِ خَازِناً لغيرك(10).
النظرة الدعوية للمال تتجسد في ضرورة اكتسابه من حلال والتمتع به في مرضاة الله تعالى
4- الخوف من السلب الإلهي للمال:
قال ابن القيم: إن مَنْ بَخِلَ بماله أن يُنْفِقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته سَلَبَه الله إياه، أو قَيّضَ له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرَّته عاجلاً وآجلاً، وإن حبسه وادّخره منعه التَّمتُّعَ به، ونقله إلى غيره، فيكون له مَهْنَؤه وعلى مَخلِّفه وزْرُه(11).
5- العلم بأن المال أمانة ومسؤولية:
كان الحذر من فتنة المال مسيطراً على الخلفاء؛ حيث كانوا ينظرون إلى المال على أنه مسؤولية وأمانة، ومما يدل على ذلك ما رواه قتادة قال: كَانَ مُعَيْقِيبٌ عَلَى بَيْتِ مَالِ عُمَرَ، فَكَنَسَ بَيْتَ الْمَالِ يَوْماً، فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَماً، فَدَفَعَهُ إِلَى ابْنٍ لِعُمَرَ قَالَ مُعَيْقِيبٌ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَى بَيْتِي، فَإِذَا رَسُولُ عُمَرَ قَدْ جَاءَنِي يَدْعُونِي، فَجِئْتُ، فَإِذَا الدِّرْهَمُ فِي يَدِهِ فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ يَا مُعَيْقِيبُ أَوَجَدْتَ عَلِيَّ فِي نَفْسِكَ شَيْئاً؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تُخَاصِمَنِي أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الدِّرْهَمِ(12).
من خلال ما سبق يتبين أن النظرة الدعوية للمال تتجسد في ضرورة اكتسابه من حلال، والتمتع به في مرضاة الله تعالى، والحذر من فتنته أو الانشغال به عن طاعته، وإذا كَانَ الْمَالُ مَفْقُوداً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ الْقَنَاعَةَ وَقِلَّةَ الْحِرْصِ، وَإِنْ كَان مَوْجُوداً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الْإِيثَارَ وَالسَّخَاءَ وَاصْطِنَاعَ الْمَعْرُوفِ وَالتَّبَاعُدَ عَنِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ(13).
______________________
(1) حلية الأولياء: الأصبهاني (1/ 88).
(2) إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي (3/ 235).
(3) الوابل الصيب: ابن القيم، ص 33.
(4) تفسير الطبري (23/ 286).
(5) عيون الأخبار: ابن قتيبة الدينوري (1/ 351).
(6) البداية والنهاية: ابن كثير (9/ 80).
(7) إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي (3/ 38).
(8) المرجع السابق (3/ 232).
(9) الزهد: أحمد بن حنبل، ص 33.
(10) عيون الأخبار: ابن قتيبة الدينوري (2/ 400).
(11) إغاثة اللهفان (2/ 942).
(12) الورع: ابن أبي الدنيا، ص 126.
(13) إحياء علوم الدين (3/ 243).